لدي قناعة بأن مكمن الخلل في لقاء الزميل المخضرم داود الشريان في برنامجه الثامنة ينطوي على الشعور المفرط بالثقة من معالي الوزراء بأن ما يقدّمونه من طرح في حصانة من تحدي الرأي الآخر، فالاطمئنان المفرط والمتوهم بأن ما يطرحونه في حلقة مسجّلة يساعدهم على تدارك ما يشاؤون والهروب مما يحذرون أوقعهم في فخ الحرج والأخطاء الكارثية، وأعتقد أن الأقدر على تقدير مستوى هذا الوهم هو الزميل الشريان نفسه، الذي أجزم أنه نجح في الظفر بسبق إعلامي يسجل له ولقناته التي يعمل فيها دون تنازلات تخل بمهنيته وهدفه من هذا اللقاء! أقول ذلك وأنا على يقين أن الحلقة الأساسية لو استضافت كل أو بعض ضيوف التعليق والرد في الحلقة التي تلتها لشعر الوزراء بتحدي الرأي الآخر واستدركوا كثيراً من خيانة التعبير لأن الرأي الآخر يساهم كثيراً في عقلنة الطرح ومنطقيته، لا ألوم معالي الوزراء لقناعتي بأن كثيراً من المسؤولين والتنفيذيين في القطاع العام والخاص لا يزالون يتعاطون مع الإعلام ومنصاته القديمة والجديدة بنمط تقليدي تراكمي لم تصقله الخبرة والتجربة والحصافة، التي كان شيء منها حاضراً لدى الوزير المخضرم إبراهيم العساف على الأقل في تلك الحلقة! خيانة التعبير ثمنها باهظ ويكفي من دروسها أنك حين تعجز عن ضبط الفعل فإنك تكون أعجز عن السيطرة على ردات الفعل وهو ما حدث وتسبب في كل تلك الضوضاء التي صمت آذان الجميع! كان في الحوار الكثير من الإيجابيات والتوضيح الذي خبا ضوؤه في ظلام الأخطاء التي لا يمكن تجاوزها، فلم يكن من المنطق والحكمة الحديث عن نتيجة مقتضبة لدراسة لا يعلم بوجودها إلا الوزير والمقرّبون حوله واجتزاء نتيجتها بتعال على موظف للتو خرج من صدمة انخفاض الدخل وتقليص البدلات التي تعني له قوت عياله وحاضنة التزاماته! ليوضح فيما بعد الزميل الشريان وفِي حلقة الرد أنها ليست الدراسة التي صدرت عن معهد الإدارة والتي تنصّل منها المعهد نفسه ولَم يعتمد نتائجها، موضحاً أنها لا تشمل كل الموظفين الحكوميين! ليكون فيها الرد على دعوى الوزير بأن إنتاجية الموظف الحكومي ساعة واحدة فقط! الحقيقة أن كثيراً من طرح معالي وزير الخدمة المدنية خالد العرج حول الموارد البشرية ينسجم مع خلفيته الاحترافية في اصطياد المدراء التنفيذيين والكفاءات المميزة، وهو ما عُرف به قبل تسنّم الوزارة، فالمعايير والبيئة التي ترتبط بهذه الشريحة تختلف اختلافاً كلياً عن الموظفين الحكوميين المرتبطين بإرث تاريخي من العلاقة مع الدولة الرعوية الأبوية والدخول في هذه المنطقة الملتهبة والمرتبطة بما هو أبعد من الحسابات الاقتصادية يستلزم الوعي الكامل بتفاصيل هذه العلاقة وواقعها وانعكاساتها المتشعبة، فإدارة الموارد البشرية في شركة ربحية محدودة الأثر بالمحيط الداخلي تختلف كلياً عن الأثر المترتب على مسؤولية دولة تجاه موظفيها، ولذا دائماً ما استذكر مقولة تعلمتها من روح الاقتصاد أن الاقتصاد أخطر من أن يُترك في يد الاقتصاديين! معالي الدكتور محمد التويجري نائب وزير الاقتصاد كان هادئاً ومتزناً لولا زلة لسانه العجيبة التي للأسف انساق فيها مع فخ السؤال دون أن ينصت له بحذر ويدرك أنه ملغم بعبارة لا تستقيم في قاموس الاقتصاديين وفي وصف حال اقتصاد كالاقتصاد السعودي، هذه الزلة التي لا يمكن وصفها بأقل من كارثة غضت الطرف عن تشخيصه للتحديات الاقتصادية التي تستلزم حراكاً حقيقياً لمواجهتها، والحقيقة أن ما قاله الدكتور التويجري يعرفه الاقتصاديون مسبقاً وقد حذّروا منه كثيراً حتى قبل أن تعلّق الجرس رؤية السعودية 2030! من المؤلم اليوم أن البعض يسعى ولأسباب ضيّقة الأفق إلى تسطيح النقد الموضوعي الذي يتجه لتصريحات مسؤولين أو قرارات معينة، باعتبارها موجهة ضد الرؤية الجديدة لاقتصاد البلاد مخالفاً حقيقة أن القوة الكامنة خلف رؤية 2030 والتي لم تتوفر في كل جهود الإصلاح التي سبقتها تكمن في سقف الشفافية التي تبنتها والانفتاح على كل شرائح المجتمع الذين باتوا يدركون تفاصيل الرؤية أكثر من بعض المسؤولين الذين يفترض بهم حمايتها وتحقيقها، فهل من المنطقي أن لا ينتقد المجتمع وزير الخدمة المدنية وهو يعرض وبشكل متعال نتيجة دراسة مجتزأة يفترض أنها مسوّغ منطقي لتهرّب بعض شركات القطاع الخاص من التزاماتهم بالسعودة التي هي في قلب الرؤية 2030 , وهل من المنطقي أيضاً أن يتجاوز المجتمع فضلاً عن المختصين حديث نائب الوزير التويجري عن شبح إفلاس المملكة وهو الرجل المالي الذي يدرك خطورة هذا المصطلح لو أطلق على شركة صغيرة فضلاً عن دولة! أخيراً فإن الدكتور إبراهيم العساف الذي أعتقد أنه خرج بأقل الأضرار في حلقة الصدمة كان مدركاً لصعوبة الظهور في هكذا ظروف اقتصادية وأسعفته خبرته وتمرّسه في الكر والفر من الخروج من مأزق إيقاف سندات التنمية في عام 2007 والذي كان خطأ بحق الاقتصاد تسبب في خروج الكثير من رؤوس الأموال إلى الخارج ومستوى عال من التضخم الذي كان يمكن تداركه، لكنه للإنصاف كان أكثر تطميناً وعقلانية وموضوعية من زملائه الذين خذلتهم الخبرة والحصافة، فالثقة في الاقتصاد ومؤسساته هي ضمانة الاستمرار والمحرك الذي يمكننا من تحقيق الرؤية الإصلاحية الاقتصادية الجديدة، وأي تجريد للاقتصاد منها يعتبر وأداً للرؤية وطموحاتها الكبيرة! فكل الأمل اليوم أن نعيد حساباتنا لكي لا يخوننا التقدير بعد أن خاننا التعبير... وبالله التوفيق.