تحدثني شجرة التوت الشامخة في حديقتي عندما أجمع ثمارها أن الرياض التي لم تخلع ثوب البرد عنها إلا قليلاً في الآونة الأخيرة قد بدأت تراضيها، وتلثم خد أوراقها بحب، وأن رمل الحديقة رغم تواضعه كان قادرًا على أن يمدها بما تريد لتتمسك بالحياة أكثر، لكنها تعود لتهمس في أذني عندما تميل أغصانها أنها تشعر بغربة الزمان والمكان رغم امتداد جذورها وحلو ثمرها..! يعيش بعض البشر غربة مثل تلك التي تعيشها الأشجار عندما تغرس في مكان غير موطنها، وترفض أحيانًا حتى مد جذورها، أو كطيور تهاجر وتقطع المسافات هربًا من مكان تحبه؛ لأنه لم يعد قادرًا على احتوائها، لكنها تعود لمكانها الأول تبحث عن بقايا أعشاشها؛ لتعمرها من جديد؛ ليتجسد لنا هنا معنى الرضا والبقاء والعودة والحنين. قد يتعلق الغريب رغم مرارة واقعه بحياة ليست له؛ لأنها لامست روحه، وقدمت له شعورًا لم يستطع أحد غيرها تقديمه. لذلك الحقيقة التي يجب أن ندركها أن الله عندما خلقنا رسم طريقين، وترك حرية الاختيار لنا؛ وهذا هو سبب سعينا في الأرض، وعدم حيرتنا؛ لأننا على يقين أن ما يحدث قد رتبه الله على حسب نياتنا، وأن قدرتنا على صناعة الفرص هي في أصلها اختيار بين النجاح والفشل. الغربة من أقسى مواقف الحياة التي يمكن عيشها؛ لأنك من خلالها تختار مكرهًا البعد عن الأشياء التي تحبها. قد تكون أحيانًا قاب قوسين أو أدنى من أحلامك، ولكن لإرادة خفية تتوقف تلك الأمنيات على هامش التحقيق، وتعتلينا الدهشة، ولا يمكننا أمام هذا كله إلا التمتمة (بخيره)، وبعدها نهاجر بعيدًا عن مواطن نحبها ونريدها؛ لأننا من أول المواقف السلبية حكمنا على أمنياتنا بالفناء والنهاية. الغربة هي قناع للهرب من بين أنياب واقع تفرضه علينا عثرات السنين. هي الصمت الذي يتلبس الحديث، والغيمة السوداء التي لا تمطر أبدًا. الغربة هي أن لا تجد نفسك، وتضيع في طريق حقيقي أمامك؛ لتصنع في مخيلتك دروبًا، تقود إلى فراغ، لا يتردد فيه سوى صدى أمنياتك. لذلك ما بين التوقف والرحيل والبحث عن خيارات أجمل تذكر شجرة التوت، وكيف تساقطت ثمارها على أرض ليست لها، ومدت أغصانها لتعانق النسمات الباردة من بين أحضان نجد الحارقة.