كل دولة من دول العالم لها يومها الوطني، فهو يوم من أيام تاريخها المجيد، ولكنها تختلف في توقيته وتسميته ورمزه. وهذا اليوم قد يكون عند بعض الدول الجلوس على العرش، أو الاحتفال بيوم التحرير، أو استقلالها عن المستعمر الباغي، أو توحيد البلاد. ويظل تاريخ كل وطن هو كنز الوطنية الحقيقي الذي يحتفظ له بجواهره من أيام لا تُنسى، وأحداث خالدة لا تُمحى، ويكشف عن معادن البلاد، والأبطال من أبنائها. ولهذا يختار كل شعب من تاريخه وأحداثه وأيامه أعظمها تأثيراً وأبقاها على مر الزمان، ليكون يوما وطنياً تتجدد فيه ذكرى عطره على قلب كل مواطن، يتصل بها الحاضر بالماضي، ويتطلع منها إلى مستقبل مشرق من خلال الاحتفال به في كل عام. وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، يرتبط به الإنسان ويتشبث بأرضه إذا أقام فيه، ويحنُّ إليه ويهفو إذا بعد عنه أو غاب، وينبري للدفاع عنه إذا أصابه مكروه أو تعدى عليه معتد، ويحمله معه أينما حلّ أو ارتحل. هذا الحب للوطن عبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية نزول الوحي عليه بغار حراء ذهبَ مع زوجتِه خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وقصَّ عليه ما حدث معه من أمر نزول جبريل عليه، وورقة يفسر له ذلك حتى قال: ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَوَ مُخْرِجِيّ هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلاّ عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) رواه البخاري). قال السفيري قوله صلى الله عليه وسلم: أوَ مخرجي هم؟ استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات. إن ارتباطه الإنسان بوطنه الذي نشأ فيه، وقضى عمره على أرضه، وبين أهله وناسه، الذين هم أهله، عزيز عليه أن يخرج منه وأن يكون خروجه على يدهم، حتى إذا حدث ما كان متوقعاً، ظهر هذا الحب للوطن وتجلت هذه الغريزة الفطرية، عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة ليلقي عليها نظرة وداع لأرضها وبيوتها، يستعيد المواقف والذكريات، وإن خالط هذه الذكريات الألم، مخاطباً لها بكلمات تكشف عن حبٍّ عميق، وتعلُّق كبير بديار الأهل والأصحاب، وموطن الصِّبا وبلوغ الشباب، وعلى أرضها بيت الله الحرام، قائلاً: والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ (وفي رواية أخرى): ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنْتُ غيرك (رواه الترمذي)، وفي ذلك دلالة واضحة على حب النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدلُ علَى شدةِ حزنِه لمفارقته له، إِلاّ أَنه اضطُرَ لذلك. ونحن نحتفل هذه الأيام بذكرى يوم عزيز على قلوبنا جميعاً، يوم من أيام التاريخ الخالدة للمملكة العربية السعودية وللأمتين العربية والإسلامية. ففي كل عام تحتفل بلادنا في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر باليوم الوطني... ذلك اليوم الذي يمثّل ذكرى توحيد المملكة وتأسيسها على يدي جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله- لتتوحّد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة تحت اسم المملكة العربية السعودية. وقد إخطار جلالته يوم إعلان قيام المملكة العربية السعودية في يوم الخميس الواحد والعشرين من شهر جمادى الأولى 1351هجرية الموافق الثالث والعشرين من شهر سبتمبر1932 يوماً وطنياً. والحقيقة أن الاهتمام باليوم الوطني وتاريخه يشكل رغبةً في إحياء هذا التاريخ، وتبصير الشباب والأجيال القادمة وتوعيتهم به، ودفعهم نحو اكتشاف تجارب الماضي التاريخية والثقافية والاجتماعية والاستفادة منها بالمشاركة وبذل الجهد في ربط الماضي بالحاضر واكتساب التجربة لصياغة المستقبل. وهو فوق هذا وذاك تعبير عن الولاء للوطن. ويوم للاحتفال بالقيم التي قامت الدولة عليها ونشأت على أساسها. وللوطن حق على كل من عاش على أرضه، وتمتع بخيرها، وشرب من مياهها، وأكل من ثمرها، ونَعِمَ بخيرها، ولا يعي ذلك إلا كل حر: وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ وتحتفل المملكة في هذا العام بمرور الذكرى السادسة والثمانين على إنشاء هذه الدولة وعلى سنواتها الحافلة بالعطاء والإنجاز.. المليئة بالسواعد الفتية والإرادات القوية التي جعلت من هذه السنوات مجرد محطات للوقوف والتريث والتقاط الأنفاس في رحلة قصيرة زمنية قصيرة في عمر التاريخ طويلة بكل مقاييس التطور من حيث أداؤها وحجم تقدمها. واليوم الوطني وبكل ما تحقق فيه على مدى ست وثمانين عاماً ميلادياً هو أحد إنجازات الملك عبد العزيز العظيمة الباهرة التي لا ينساها له التاريخ.. ويجب ألاّ ننظر لهذه المناسبة التاريخية العظيمة من منظور تاريخي خالص.. وإنما ننظر إليها في إطار تجربة ناجحة لوطن رغب ملوكه وشعبه الوحدة والتوحيد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وعملوا قدر طاقتهم وإمكاناتهم لبناء دولة عصرية بكل المقاييس.. فأرسوا بذلك دعائم الدولة القوية الحديثة التي تحظى بالمكانة والحضور العالمي.. وحشدوا لها القوى البشرية القادرة بالتعلم واكتساب المهارات والتواصل مع العالم الخارجي على التطور بهذه البلاد والوصول بها إلى أقصى درجات التقدّم. وهذا اليوم العظيم يستحق منا في كل عام مراجعة التجربة وقياس مدى تطورها، ونجاحها، وأن نتذكر بوعي.. الكثير من القيم والتضحيات والتجارب التي اكتسبناها عبر السنين.. والتي صاحبت مسيرتنا عبر الأجيال.. بقيادات حكيمة واعية أخلصت لربها ودينها ومواطنيها.. فأسهمت في بناء هذه الدولة وارتقت بها وما زالت تفعل الكثير. وأنتم أيها الشباب عماد هذا الوطن، وسواعده الفتية، وأمله في التقدم والرقي، اهتمت الدولة بكم.. وأدركت أن بناء الإنسان السعودي يمثِّل حجر الزاوية في عملية التطور فعمدت إلى تعليمه وتدريبه وتأهيله في كافة مراحل التعليم.. وأكسبته الكثير من المهارات والقدرات للقيام بواجباته الاقتصادية والاجتماعية كمواطن صالح يستطيع القيام بدوره في البناء والتطور. وكما قال الشاعر المتوكل الليثي: إنا وإن كرمت أوائلنا لسنا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا ونحن في بنائنا وعملنا الدؤوب يظل الوطن في قلوبنا، نحمله معنا، ولا يغيب عنا، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي يظل الوطن هو الحب الذي لا يحتاج إلى بيان، كما لا يحتاج النهار إلى دليل، فليكن ولاؤنا جميعاً أيها الشباب ومحبتنا للوطن، وقيادته الراشدة، ولولاة الأمر فيه، سائلين الله تعالى أن يحفظ هذه البلاد الغالية، وقادتها، ويحميها ويحميهم من كل سوء ومكروه. د. عبد الناصر بن عبد الرحمن الزهراني - كلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود