من الأشياء التي تميزت بها مجتمعاتنا في هذا الوطن الشامخ هي انك تجد شبه علاقة حميمة تربط العديد من أبناء هذه المجتمعات، ليست لها علاقة بالزمان والمكان ولا بالجيرة أو المعرفة أو المشاهدة في المسجد أو الجامع، إنما هناك علاقة تربطهم عبر «رباط الحليب» هذا الرباط الذي جعل في الماضي نسبة كبيرة من أبناء هذه البلدة أو تلك إخوة وأخوات عبر الرضاعة في زمن لم يكن متوفراً فيه الحليب البديل، وكانت بعض الأمهات الصغيرات وما أكثرهن في الماضي بحكم زواجهن في سن صغيرة، كانت الواحدة منهن تعاني من نقص في حليبها أو ضعف في عملية الإدرار، وكانت آثار الرضاعة الطبيعية من خلال الأمهات المرضعات تكاد تكون معروفة لدى مختلف الأسر والعائلات أو حتى القبيلة نفسها، فالأمهات المرضعات اللواتي مارسن علاقة إرضاع طبيعية تكون الأم والطفل خلالها سعيدين معا بالرضاعة خلال شهور عديدة، وخلالها سبحان الله يتكون نوع من الحب والعاطفة الذي يتولد من خلال هذه التجربة الرائعة، هكذا كانت تقول لنا جداتنا وامهاتنا رحمهن الله؟! لذلك كان سائدا في مجتمع الماضي الاستفادة من المرضعات بصورة عامة وهامة وبالتالي يتم الاستعانة بالامهات الاخريات من جيرانها أو حتى قريباتها أو من معارف الأسرة، بل قد تصل إلى الاستعانة بمرضعات من خارج البلدة أو المدينة، وفي الماضي كانت في كل مدينة وبالتحديد في « الفريج « أو الحي بعض السيدات الفاضلات اللواتي اشتهرن بتقديم خدمات الرضاعة. بعضهن يقمن بهذا العمل الإنساني لوجه الله، ناشدات الأجر والثواب منه، وبعضهن وهن قلة يحصلن على مقابل مادي بدل الرضاعة وحسب عدد المرات في اليوم. وكتابتي لإطلالة اليوم عن رباط الرضاعة القوي.. دفعني إليه حديث أحد كبار السن في احدى القنوات الخليجية والتي كان يصف فيها خلال حديثه وذكرياته كيف كانت العلاقة قوية في مجتمعات الماضي بطبيعتها وببساطتها، إضافة إلى دور رباط الرضاعة القوي في تقوية الأواصر والعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة وحتى الفريج أو القرية نفسها. فنسبة كبيرة منهم رضعوا من امهات بعض..!. وما ذكره هذا الشيخ الجليل في حديثه كان والحق يقال سائدا في مجتمعاتنا بالمملكة فيما مضى، وكانت ظاهرة وجود الأمهات المرضعات في مجتمعنا ظاهرة محمودة وإنسانية لعبت دوراً كبيراً في حياة الآلاف من المواليد، أولاد وبنات، وكانت ظاهرة المرضعات ظاهرة معاشة في مختلف المجتمعات قبل الإسلام وبعده. وجميعنا يعلم أن مرضعة سيد البشر ثويبة الإسلامية أول من أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه، وأرضعت ثويبة مع رسول اللّه عليه الصلاة والسلام - بلبن ابنها مسروح- أيضاً حمزة عمّ رسول اللّه وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وفي مختلف المجتمعات كانت تحظى المرضعة بتقدير كبير لدى هذه الأسرة أو تلك. بل إن بعضهن كان له أهمية كبرى لدى من قمن برضاعتهم. والقارىء لتاريخ القادة والأباطرة والملوك والخلفاء عبر التاريخ يكتشف كيف كان للمرضعات دور كبير جداً، بل إن بعضهن كان يؤخذ برأيهن، بل أبناء هؤلاء المرضعات وصل إلى أماكن متقدمة في بلاط هذه الدول بفضل رباط الحليب وما تحفل به الأم المرضعة من مكانة وحظوة عظيمة. وكان الكثير من القادة والحكام يعتمدون على اخوانهم في الرضاعة في إدارة شؤون الدولة، أو يجعلون منهم مسئولين عن قطاعات هامة في الدولة، هكذا كان فعل الفراعنة، وأباطرة الرومان واليونان، وحتى في عهود الخلافة الإسلامية المختلفة، وفي العقود الاخيرة عادت ظاهرة الاهتمام بالرضاعة الطبيعية، والتقليل من الاعتماد على الحليب الصناعي، لذلك انتشرت في بعض دول العالم جمعيات للمرضعات يقمن بمهمة الرضاعة الطبيعية البديلة كما كان سائداً ومعاشاً في الماضي.