أخذت الصدمة الفاروق عمر رضي الله عنه، فلم يستوعب حقيقة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ أبا بكر رضي الله عنه أعاد الأمور إلى نصابها وأعاد عمر إلى الحقيقة، عندما قال قولته المشهورة (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). هذا المدخل أسوقه لتبيان مسألة الرمز والفكرة أيهما أولا؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم هو أسمى وأعظم رمز لأقدس فكرة وهي الإسلام ،والبقاء دائما للفكرة والرمز يظل أحد وسائلها الناجعة التي تخلدها وتبقيها حاضرة في وجدان الاتباع وقلوبهم. وفى الحركات الإنسانية المتتابعة التي جاءت تباعا، سواء كانت حركات تحررية أو إصلاحية أو أيدولوجية ،كان الرمز حاضرا وبقوة في أدبيات تلك الحركات، وكان تأثيره بالغا في وجدان التابع والمراقب على حد سواء، كثير من هؤلاء الرموز أيقظ شعبا وأحيّا فكرة صارت أدبياتها لزمة فكرية وتوصيفا معرفيا لفئة من البشر وحقبة من الزمن، به يأتمرون وينتهون، وبهديه يقتدون ليصبح هو الفكرة بكل تجلياتها وحضورها. هنا يبدأ المأزق للفكرة والرمز والاتباع، فكريزما الرمز وحضوره يصبحان سابقة للفكرة، وتصبح الفكرة عند الاتباع تابعة للرمز يسبقها حضوره الطاغي وتتخطاها كاريزماه المهولة. المقربون من الرمز يمارسون أدواراً تدفع به إلى احتلال مساحة كبيرة في الساحة، في بعض الأحيان يحصن بدرجة عالية من القداسة، البعض من هؤلاء الرموز يقدس بعد مماته، فتضرب على قبره القباب ويصبح ضريحه مزارا شريفا يؤمه الاتباع، البعض من هؤلاء الرموز يظل حراكه الفكري والمعرفي إطار عاما للفكرة يؤطرها ويحبسها، فلا اجتهاد بعده ولا مساس بأفكاره فهي ثوابت عليها يحيا الجميع ويموتون. كل هذا بسبب طغيان حضور الرمز وإقصائه للفكرة ومفاهيمها التى كانت في الأصل متكأة للحضور والظهور والتنفذ. بعض الرموز ليس له من الأمر شيء ولكن الصف الأول من الاتباع الذين عايشوه وجايلوه يعلمون أنهم أقل من أن يملأ الفراغ الذي تركه رمزهم، وبالتالي مساحة قبولهم وتأثيرهم على الجماهير ستكون أقل من ما يتمنونه ويرجونه، فيجدون أنفسهم مضطرين إلى تصنيم الرمز وإسباغ حالة من القداسة أو الإثارة حوله وحول أعماله الخالدة، فيبدأ مسلسل الكذب والتدليس على هذا الرمز، وابتسار شيء من كلامه أو كتاباته ووضعها في سياق مختلف يخدم الاتباع الجدد الذين تسنمو الجماعة قيادة وتوجيها. في مثل هذه المحاضن الفكرية لا صوت يعلو فوق أصوات الكبار ومن يخالف أو يخرج عن نسق الجماعة فكرا وحراكا يصادر إنسانا وفكرة بل في أغلب الأحيان يصبح ضحية آرائه الجريئة التي آلت به إلى تلك النهاية المأساوية الفظيعة. حراسة الأفكار الإنسانية بالرموز واتباعهم من خلال تراتبية الرمز أولا والفكرة ثانيا، يقتلها ويجعلها مجرد شعارات تحضر عند الحاجة الإنشائية فقط، أما إطلاق العنان لها لتكون أولا من خلال رمز يجليها واتباع يتعاهدونها بالتجديد فهذا ضمانة يجعلها شعلة مضيئة في وجدان المؤمنين بها والمجايلين لهم وراصدي التاريخ المنصفين والمتحاملين على حد سواء، لأنها حققت شرط الحضور والبقاء والتمكين، فهي أولا الأساس والمتن، والبقية هامش يتغير تبعا للزمن وحكمه. - علي أحمد المطوع