نشأ بين أقرانه معروفا بذاكرته الحديدية، يحفظ القرآن والحديث والأناشيد،كان متفوقا فى دراسته وهذا ما جعل بعض المؤثرين يستميلونه لمنهجهم وطريقتهم، فأصبح (عضوا عاملا)، متحمسا لأفكار أساتذته منافحا عن قضاياهم وأدبياتهم، استمر في تفوقه الدراسي حتى حصل على الثانوية العامة، وبمجموع أهله لأن يدخل كلية الهندسة. تلقفته أيد ناعمة حريصة ماهرة، فسهلت أمر تسجيله في الجامعة ورعته حتى اشتد عوده، وتخرج ليصبح مهندسا إنشائيا يشار إليه بالبنان. ومع تقادم عضويته في تلك المؤسسة الفكرية التي تقتضي تراتبية لا تسمح له بتخطي من سبقوه من أساتذة وأعضاء، صار يضيق ذرعا بتسلط النافذين السابقين، فرغم كونه قد أصبح مهندسا وموظفا حكوميا محترما إلا أنه ما زال في نظرهم، الصغير الذي لم يكبر بعد، ورتبته التنظيمية ما زالت تصنفه عضوا عاملا، يأتمر بأمر منهم أقل منه علما وفكرا وثقافة. العضو العامل مسمى تنظيمي أسر هذا المهندس وجعله مجرد آلة تؤمر فتنفذ، بدون أدنى درجات المعارضة أو النقاش، وإن حصل النقاش فهو نقاش صوري يعرف في داخله أنه لن يفضي إلا لترسيخ وضعه كعضو عامل لا يملك إلا أن يسمع ويطيع. إن التراتبية التي تحكم المنظومات العاملة في الساحة أيا كان توجهها الفكري، تعتمد على مبدأ الولاء للرمز ثم طاعته في ما يريده، وهذا يجعل الأعضاء مجرد صور لأجساد لا تملك سوى هز رؤوسها طاعة وامتثالا. هذه المنظومات تحكمها السرية المطلقة، والسرية تأتي من خلال عمليات برمجة للأتباع تجعلهم أسرى لفكرة الخيانة ونهاياتها العصيبة على الفرد أولا وعلى الجماعة، وهنا يعيش العضو هاجس الولاء ويخشى من أي تصرف قد يفهم منه تقصيره وهذا ما قد يفضي إلى نقمة الرموز عليه وربما عقابه وإقصائه. أتساءل وإياكم، هؤلاء الأعضاء العاملون كيف يرضون هذا النوع من الحياة، وقد صودرت حرياتهم في التفكير والعمل، والصدح بالرأي، وخصوصا أنهم قامات علمية وفكرية يشار إليها بالبنان ؟، كيف يرضى الواحد لنفسه أن يظل مجرد عضو عامل يأتي بالأخبار ويحمل الرسائل، ويظل على هذه الصفة عقودا طويلة لا يتغير وصفه الوظيفي ولا مهامه ولا طريقة تفكيره ؟، وعندما تناقشه تجده مجرد وعاء يحمل أفكار الآخرين، أي أن قدرته على التفكير والتمحيص أضاعها الرمز وسطوته والتبعية وضرورتها للرمز أولا ثم للمنظومة. النبي محمد صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على الرأي ولم يحجر على أحد، فصنع رجالا غيروا موازين الدنيا فأسقطوا أعظم إمبراطوريتين في ذلك الزمن، وأسسوا حضارة ما زالت شواهدها على كافة الصعد ماثلة للعيان. أخيرا العضو العامل في هذه المجاميع الفكرية مختطف عقله وقراره وجهده، هو مجرد مسمى ورتبة على خارطة هيكل تنظيمي لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، صودرت إرادته فأصبح مستعمر الفكر والتفكير همه أن يرتقي سلم المجد في تلك البيئة وعندما يصل فإنه يبدأ في اصطفاء كائنات بشرية مثله تسمع وتطيع وتنفذ، أما التفكير فهو حقه المشروع الجديد الذي حرمته منه أدبيات المنظمة ورموزها سابقا، واليوم هاهو يفكر بعقل كان معطلا منغلقا ومغلقا، وهنا السؤال عقل كهذا العقل التعيس، ما عساه أن يضيف للمنظومة ولأفرادها المغلوبين على أمرهم المسجونة عقولهم حتى حين وربما إلى أبد الآبدين.