18 - وحين نقفز إلى القرن الرابع عصر النهضة ونضج علوم العربية، نقف عند أبي سليمان المنطقي (محمد بن بهرام السجستاني ت 380ه) شيخ أبي حيّان التوحيدي فنراه يفضّل العربية، في نص فريد ذكره التوحيدي في (المقابسة 88) من كتاب المقابسات، قال: فقلت لأبي سليمان: فهل بلاغةٌ أحسن من بلاغة العرب؟ فقال: هذا لا يَبين لنا إلا بأنْ نتكلّم بجميع اللغات على مهارة وحذق، ثم نضع القِسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها وأقصاها ثم نحكم حكما بريئاً من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يَطمع فيه إلا ذو عاهة! ولكن قد سمعنا لغاتٍ كثيرةً من أهلها، أعني من أفاضلهم وبلغائهم، فعلى ما ظهر لنا وخُيّل إلينا لم نجد لغة كالعربية، وذلك لأنها أوسع مناهجَ، وألطف مخارجَ، وأعلى مدارجَ، وحروفها أتمّ، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريضها أشمل، ولها هذا النحو الذي حصته منها حصّة المنطق من العقل، وهذه خاصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس، وعلى ما ترجم لنا أيضاً من ذلك؛ ولولا أن النقص من سُوسِ هذا العالم وتُوسِهِ لكان علم المنطق بهيئة الطبيعة بالعربية، وكانت بسوق العربية إلى طبائع اليونانية، فكانت المعاني طباقاً للألفاظ والألفاظ طباقاً للمعاني، وحينئذ كان الكمال ينحطّ إليه عن كثب، والجمال يصادفه بلا رَغَب ولا رَهَب. 19 - ثم نرى أيقونة ذلك القرن (من أصل رومي) الباحث الفريد، الذي عرف العربية معرفة الخبير، وعرف منها أدقّ أسرارها، واستخرج من مكنونها ما لم يعرفه عربي أو أعجمي قبله، فحكم عليها عند المفاضلة حكم الخبير الأمين بما عرف عنه من تثبّت ودقة في البحث، ففضّلها على لغة قومه وسائر لغات الأرض، ووافق فيها حكمه رأي أستاذه أبي علي الفارسي، وكان في الخصائص يحتجّ لرأيه في مسألة تفضيل العربية على طريقته في الحِجاج اللغوي ببسط المسألة وتقليبها من جميع جهاتها وأحوالها ورد الحجّة بالحجّة، فينطلق من الإشارة إلى شغف العرب بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها، ثم يقول: فإن قيل له: فإنّ العجم أيضًا بلغتهم مشغوفون ولها مؤثرون ولأنْ يدخلها شيء من العربي كارهون، ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعرُ منهم شعرًا فيه ألفاظٌ من العربية عِيب به، وطُعن لأجل ذلك عليه، فتساوت حال اللغتين في ذلك، فأيّة فضيلة للعربية على الأعجمية؟ قال: لو أحسّت العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة وما فيها من الغموض والرقّة والدّقّة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلا عن التقديم لها والتنويه منها. قال: فإن قيل له: لا، بل لو عرفت العرب مذاهب العجم في حسن لغتها، وسداد تصرفها وعذوبة طرائقها ما رفعت من رؤوسها باستحسانها وتقديمها، قال: قد اعتبرنا ما تقوله فوجدنا الأمر فيه بضدّه؛ وذلك أنّا نسأل علماء العربية ممن أصله عجمي وقد تدرّب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بين العربية والعجمية، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. قال ابن جني: سألت غير مرة أبا علي الفارسي -رضي الله عنه- عن ذلك فكان جوابه عنه نحوًا مما حكيته. فإن قيل له: ما تنكر أن يكون ذلك لأنه كان عالما بالعربية ولم يكن عالما باللغة الأعجمية، ولعله لوكان عالما بها لأجاب بغير ما أجاب به! قال: نحن قد قطعنا بيقين وأنت إنما عارضت بشكّ، ولعلّ هذا ليس قطعًا كقطعنا، ولا يقينًا كيقيننا، وأيضًا فإنّ العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها، ولم نر أحدًا من أشياخنا فيها -كأبي حاتم وبندار وأبي علي وفلان وفلان- يُسوّون بينهما ولا يقربون بين حاليهما.. ويختم ابن جني بقوه: وكأنّ هذا موضعٌ ليس للخلاف فيه مجال لوضوحه عند الكافة. 20 - وفي هذا القرن الرابع –أيضا- يظهر لغويٌّ كبير آخر عرف أسرار العربية ووضع مقاييسَ فريدة للمعجم والدلالة، وهو أحمد بن فارس (من أصل فارسي) ونراه يثير مسألة التفضيل في كتابه الشهير (الصاحبي في فقه اللغة) ويفردها ببابٍ سمّاه: (باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها) وينتهي فيه إلى تفضيل العربية على غيرها. (يتبع)