قائمة طويلة من الأسماء والأماكن والأحداث تقبع في قبو الذاكرة وتطل من حين إلى حين, لم أدر يوم أن حبستها طيلة هذه المدة بأنني حرمت نفسي من أن أعيش معها مرة أخرى, فالحياة على اتساعها بدون تقليب تلك الصفحات لا تعدو أن تكون غرفة ضيقة لها باب واسع هو تلك العناوين, نخرج منه فنكتشف حياة مرادفة طمرها النسيان, ساعين لسبر تشكلاتها, من شخصيات إبداعية وأحداث مختلفة, قد نستعيد ظروفها ونقبض على شيء من وهجها الذي أضاء دروبنا يوماً ما, فثمة الخلاصة التي انتهت بنا إلى سلوك طريق الإبداع والاستمرار فيه بدفء ووئام, ممسكين بتلك الجسور التي لا تزال تشدنا وتصلنا بعالم الكتابة وبناسها وبجمهورها على حد سواء, وعلى نحو شغوف من الاندماج في هذا المحيط والالتصاق الحميم فيه, وما أكثر ما تتقابل القلوب وتتلاقى في محيط الحرف فتدق أجراسها حنينا للماضي لنقطف من مسافات الزمن ما يعيد لنا الذكريات ونفتح أبوابها وننبش خزائنها لتبزع شموس الذاكرة وتبعث عليلها القديم فهي منفذ الروح الوحيد الذي ننسرب منه وبه لأرواح وأحداث وأزمنة وأمكنة احتفظنا بصورها وذكرياتها ومحبتها الصادقة داخل مذكرات انتزعها القلب ليبدأ القلم «وربما لا يكون باستطاعتنا تسجيل مذكراتنا اليومية, حيث نكون معتادين على الاستجابة لإيقاع الحياة والانهماك السريع فيه, وبدل ألا نكتب ذكرياتنا لهذا السبب» يكفي -في تصوري- استنطاق الذاكرة للحصول ولو على بعض ما أمسكت به, وهذا ما دعاني للكتابة قبل أن تتسع الثقوب ويضيع كل شيء. الشاعر/ سليمان بن حاذور كان الأمر أشبه أن ترى القمر يحط في بيتك ويأخذ مكانه في صدر المجلس, يومها لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة من العمر, وإن كنت بدأت في كتابة الشعر قبل هذا اللقاء بسنتين تقريباً. أي قدر جميل جاء به إلى بيتنا, إنه حدث غير عادي ونشوة عميقة تغمرني, أن التقي -ولأول مرة- بشاعر معروف, شكراً لك يا خالي وبورك صديقك, هاهو ذا يجلس بكل ثقة ويتدفق منه الشعر والكلام كما يتدفق الماء من النهر الزلال, جهوري الصوت آسر الشخصية, بهي الطلعة متيقظ البصيرة, متودد ودود, وباندفاع الشباب وثقته الزائدة في النفس, ما كان بإمكاني مقاومة رغبتي العارمة بالتنويه له بأنني شاعر (مثله) وعلى قدم المساواة, لا داعي للصمت إذا, يجب علي أن أتكلم وبسرعة فهذه فرصة نادرة ربما لا تتكرر, وكأن خالي شعر بما يدور في نفسي فقال موجهاً الحديث له (يابو داوود ترى إبراهيم شاعر) (ما شاء الله سمعني وأنا أبوك): وفوق ذلك رويت له مناسبتها وأنني كتبتها حين سافرت والدتي من القصيم للرياض دون أن تأخذني برفقتها. فما كان منه إلا أن ترنم بها (مسحوباً شجياً) دغدغ به مشاعر الجميع, فالتأمت الأصوات بمعزوفة فريدة, والمفاجأة الأكبر هي تسلل أصدقائي ومشاركتهم لنا من فناء المجلس. وحين كبرت علمت كم أنا محظوظ وبكيفية تجعل من ذلك اللقاء علامة مضيئة في مسيرتي الشعرية, فعلاوة على كون ابن حازور شاعراً فذاً فهو عراب السامري وضابط إيقاعه لفترة طويلة من الزمن ولا شيء يعلو على صوته إذ يترنم: وتمر الأيام فأتعرف عليه أكثر وأكثر حين أطلق حواسة الدافئة في ذائقتي عبر صوت فهد بن سعيد: رحمهم الله جميعاً.