من أعجب الأشياء بالنسبة لي ما يحصل في العقل، ولا أقصد العمليات المعروفة التي يمكن رؤيتها ودراستها لكن الأشياء الخفية التي لا تُعرَف إلا من آثارها، ومن يتابع هذا العمود سيلاحظ كيف رأينا مظاهر عديدة للعقل الباطن أو اللاواعي، والتي تجعلنا نفكر ونتصرف ونصدر قرارات، كل هذا بطريقة لا نشعر بها، نظن أنها آتية من الوعي لكنها آتية من العقل الباطن. يقول لينرد ملادنو في كتابه «سبليمينال» إنّ عالم النفس الشهير سيغموند فرويد روّج فكرة العقل الباطن وما يسمّى الاستبطان (introspection) وهو دراسة الشخص وتأمله لنفسه وعقله. ثم أتى مفهوم يسمّى السلوكية في علم النفس والذي رفض العقل الباطن وتجاهله، وشبّه التصرف الإنساني بالتصرف الحيواني. الحركة السلوكية اختفت في الخمسينات الميلادية وظهر مكانها تياران: الأول هو علم النفس الإدراكي، والذي استوحى بعض أفكاره من ثورة الحاسب، لكنه رفض الاستبطان، وأقر علماء هذا التيار أننا نُبطن حالات داخلية مثل الاعتقادات، ونظروا للناس أنهم مثل أنظمة معلومات تعالج تلك الحالات كما يعالج الحاسب معلوماته. التيار الثاني هو علم النفس الاجتماعي، والذي سعى أن يفهم كيف تتأثر حالات الناس النفسية بوجود أناس آخرين. علم النفس احتضن من جديد دراسة العقل، لكن كلا هاتين الحركتين شككتا في العقل الباطن، ونظرتهم أنه إذا لم يكن الناس يعون ما يحصل في هذه العمليات الباطنية، وكذلك لا يوجد لها دليل نقدر أن نتتبعه، فأي سبب يدعونا أن نصدق وجود شيء اسمه العقل الباطن؟ رغم هذا ظل علماء يجرون تجارب أظهرت أن هذه العمليات اللاوعيية تستحق أن تُدرس لأنّ لها أثراً كبيراً في المواقف الاجتماعية. وهذا ما يوجهنا لما يسمّى النص أو السيناريو الذهني. بعض هذه الدراسات تعتمد على نظريات فريدريك بارتلت، والذي اعتقد أنّ التحريفات التي لاحظها في ذاكرات الناس يمكن تفسيرها بأنّ عقولهم تتبع نصاً أو سيناريو أو خطاً لا شعورياً هدفه أن يملأ الفراغات، ويجعل المعلومات متسقة مع الطريقة التي ينظرون بها للعالم. يقول علماء علم النفس الإدراكي إن الكثير من تصرفاتنا اليومية تحصل وِفقَ سيناريو عقلي، تحصل بدون تفكير. ما يعني هذا؟ كتجربة لهذه الفكرة جلس الباحث في مكتبة وراقب الطابعة، فإذا أتاها شخص ذهب الباحث بسرعة إليها وتخطّى الشخص قائلاً: «عفواً، لدي 5 صفحات، هل تسمح أن أستخدم الطابعة؟» ولم يعطِ أي تبرير لهذا الاقتحام. هنا رفض 40% من الناس أن يسبقهم الباحث. ثم فعل الباحث نفس التصرف مع آخرين لكنه أضاف شيئاً إلى كلامه، فقال: «عفواً، لدي 5 صفحات، هل تسمح أن أستخدم الطابعة... لأني مستعجل؟» هنا انخفض عدد الرافضين إلى 6%! كيف هذا؟ من المعقول قليلاً أن يوافق الناس إذا قال الشخص «أنا مستعجل»، لكن أن يصل هذا إلى إقناعهم جميعاً تقريباً بذلك؟ رأى الباحثون أن هناك سبباً آخر، وهو أنه ربما الناس لم يقيِّموا الموقف عقلانياً ويقرروا السماح به، ربما هم آلياً وبلا تفكير يتبعون نصاً ذهنياً، والنص كما يلي، فالمخ يقول لك: «إذا طلب شخص منك شيئاً بدون تبرير، فقل لا، أما من يطلب منك خدمة صغيرة ويعطي سبباً – أي سبب – فوافِق». يبدو كأنه أمر لرجل آلي، لكنه ينطبق علينا جميعاً! لإثبات هذا، جرب الباحث تغيير السبب من «لأني مستعجل» إلى سببٍ تافه ومضحك: «لأني أريد نَسخ هذه الأوراق»! هل سينتبه الناس؟ هل سيقولون: «هذا ليس سبباً مقنعاً لتدخل أمامي! لا، آسف، انتظر إلى أن أنتهي»؟ لا. لم ينتبه أحد. كل الناس تقريباً ساروا حسب النص الذي كتبه العقل، فكانت نسبة الموافقين 93%! لاحظ كيف أنه حتى السبب السخيف (سبب «لأني أريد نسخ الأوراق»، وهو نفس سبب كل الناس الذين يريدون تصوير الأوراق!)، كان مساوياً في العقول لسببٍ مقبول وهو كون الشخص مستعجلاً. هكذا يعمل النص الذهني، بدون أن تشعر به.