إذا اعتقد المرء عقيدة معينة ثم تصرّف وفقًا لها، فإنه يرى في ذلك التصرّف مثالا للحكمة. ويصفه الناس بأنه حكيم حينما يتصرّف بالقول أو بالفعل لأمر يثبت المستقبل صحّته، مما يعني أنه يملك مهارة "فهم الحياة". هذا في الثقافة العربية، أما في الثقافة المسيحية، فإن الحكمة تعرّف بأنها المكون المتمم للإيمان عن طريق الفعل والبصيرة. ويوصف الفرد بأنه حكيم إذا صدّق الأشياء "الصحيحة"، وقام بما هو "صواب"، وامتلك ملكة تمييز ماهو "حق". والمعنى المسيحي مأخوذ من الأرثوذكسية Orthodoxy التي تعني حرفيًا "المعتقد الصحيح" وتعني Orthopaxy "العمل الصالح". والحكمة تتألف من التمييز بين Orthodoxy وOrthopaxy، أي بين ما يجب تصديقه وما يجب فعله. ولأن الحكمة رؤية ذاتية للعالم، فإنها تعبر بالضرورة عن عقيدة الفرد والجماعة ضمن مجموعة القيم الثقافية الأخرى. ومن المهم التعرّف على حكمة الشعوب في تحديد ماهو "صحيح"، وتمييز ماهو "صواب"، ومعرفة "الحق" في سبيل فهم ماوراء ذلك من سلوك وأنماط تفكير. تؤكد الأدبيات التقليدية على أن الحكمة شيء عظيم، وتحاول الثقافات تنمية الولع بها. فيعدّها أفلاطون مثلا من الفضائل الأساسية التي تضم العدل والشجاعة، ويرى أرسطو أنها تلقيح الأفهام ونتاج الأذهان وهي رأس العلم والفن والأخلاق. وعرّفها هيغل بتفصيل قال فيه: "الحكمة أعلى المراتب التي يمكن أن يتوصل إليها الإنسان؛ فبعد أن تكتمل المعرفة ويصل التاريخ إلى قمته تحصل الحكمة. والحكيم أعلى شأنًا من الفيلسوف، لأن الحكمة هي المرحلة التالية والأخيرة بعد الفلسفة". وفي ثقافتنا "الحكمة ضالة المؤمن"، وقارنها كتاب "سفر الأمثال" الإنجليزي، بالعسل، وفي خزانة الأمثال الفارسية، فإن معرفة الحكمة مربوطة بالثواب لمن يدركها والرجاء الذي لا يخيب. ولكن، على الرغم من كل ما تبشّر به الحكمة، فإن بعض الناس لا يميلون إليها بطبيعة الحال، مفضلين عليها "الوجبات السريعة". إنه لأمر صعب أن تمتحن افتراضاتك، وأن تختبر ما إن كانت آراؤك عن العالم تتوافق مع الحكمة. والأصعب من ذلك هو أن تعيش باستمرار مع معتقدات غيرك، وأن تتصرف طبقًا لإيمان معين في العالم من حولك. ولكن العمل الدائم بتلك المعتقدات والأفعال هو كل ما تتمحور حوله الحكمة. إنها ليست نظرة فردية وليست قليلا من المعرفة. إنها طريقة معيشة وأسلوب حياة من الطاعة اليومية. هناك مبدآن مزدوجان يميلان إلى أن يحكما حياتنا اليومية هما: تقليل المعاناة إلى أقل قدر ممكن، وتحقيق أقصى قدر من المتعة. وإذا أمكن دراسة بيان مفصل لتصرفاتنا خلال أسبوع مثلا، وما حوته من القرارات والإجراءات، فسنجد أن الدافع وراء أغلب الأشياء التي نقوم بها هو: إما تجنبًا للألم والمشقة والإحراج؛ أو لتحقيق السعادة والبهجة والمتعة. ويلاحظ أن هذه الدوافع لا تتطلب قدرًا كبيرًا من الاستبطان. إن الناس الذين يعيشون "حياة غير مدروسة" لا يجدون صعوبة في ترتيب حياتهم على الدوام وفقًا لتلك القواعد السلوكية التي تحصل بشكل فطري. جدير بالذكر أن حكمة بعض الشعوب تربط بين أي شيء يأتي بالفطرة وبين الإثم، فعقيدة الخطيئة المسيحية مثلا تضع احتمال الشك فيما يمكن الإقبال عليه بشكل فطري. وهذا مايطرح السؤال حول: هل هناك شيء آثم في تجنّب الألم؟ فالفرد لا يضع يده في النار. والسبب لعدم قيامه بذلك هو نتيجة خبرته بأن النار تجلب له الألم. وإذا كان من الحكمة تجنّب الاحتراق، فإنه أيضًا ليس من المعقول تجنّب أن تُجرح عاطفيًا، أو تقع ضحية الاستغلال والسخرية. أما المتعة فإنها تستحضر، في الحديث اللاهوتي، جميع أنواع المعاملات الدنيئة، ولكن بالتأكيد هناك متع بريئة (أو طاهرة). في الواقع، إذا كان الله سبحانه جعلنا نبتهج به وبخلقه، فمن المعقول أن المتع الأثيمة هي في أمور أخرى، تبرزها كل ثقافة بطريقة معينة. على سبيل المثال، في متعة حاسة الشم؛ يُبدي بعض الناس الارتياح للشخص ذي الرائحة الجميلة والنفور من صاحب الرائحة القبيحة. فهل حقيقة أننا نريد أن يكون ذلك الشخص ذا رائحة جيدة (أو على الأقل بدون رائحة)، مما يشير إلى سمة في شخصياتنا نريد فرضها على الآخرين، أم أننا نبحث عن متعة ذواتنا على حساب غيرنا؟ فهل في تلك المتعة خطأ؟ قد لايكون هناك إثم في المتعة التي نحصل عليها من شم زهرة، والدليل أن الشخص لو خُيّر بين زهرة ومطاط يحترق، فهل من الإثم اختيار ما يجلب له بهجة أكثر؟ تلك الدوافع تبدو طاهرة بما فيه الكفاية، عندما تقتصر على المستوى دون الإدراكي. ولكن لنفترض أن الفرد أصبح مُدركًا لتلك الرغبات في نفسه فشكلت حياته بتلك الطريقة وصار يتجنّب كل ما هو غير سار ويسعى خلف المتعة غايةً في حد ذاتها. وإذا كان تجنب الألم والبحث عن المتعة تصرفا لا عيب فيه، فإن فلسفة البحث عن السعادة وتجنب الألم ليست كذلك. فحسب النظام العقائدي لمعظم الناس، فإن تجنب الألم والبحث عن المتعة خبرتان تُقيّمان وفق النتيجة التي نحصل عليها منهما. فهناك أوقات تتطلب الفضيلة أن نختبر الألم، وثمة أوقات يكون فيها القيام بالشيء الصحيح إعراضًا عن المتعة. وهنا تختلف الحكمة المسيحية في أنها ليست الألم ولا المتعة، بل المعاناة ذاتها بهدف خدمة المسيح؛ أي في الغاية المجردة. في حين أن الحكمة في الثقافة العربية تميل إلى الارتباط بالنتيجة المحسوسة التي نجدها متحققة في حياتنا. على أن الثقافات التقليدية تشترك في إيجاد مبرر غيبي لأصناف معينة من الحكمة تجعلها خلاف مايعتقده المرء، وهذا المبرر يجعل التصرّف الذي يبدو غير منطقي منطقيًا ويمثل رمزًا للحكمة التي لا تدركها الحواس.