إني ألفت الحزن حتى إنني ..لو غاب عني ساءني التأخير.. في الحقيقة لا أريد أن أصل لهذا المكان المثير للشفقة إنسانيا وهو أن أعيش في الحزن وأكرس أيامي لانتظاره، فالعيش في سعادة صناعة روحية يومية تحتاج إلى تمارين وأفكار، لا أن تنتظرها لتسقط عليك من السماء.. فالسعادة فن, أن الحياة مليئة بقصص الاختبار لأشخاص ابتلاهم الله بموت أحبة أو خسارة مال أو خسارة صحة أو ضياع عمر، ستفجعنا الحياة بمصائب الدهر، قد يداهمنا مرض لا شفاء منه، قد تبخل علينا الحياة برزق، قد نضطر لتجربة الحرمان، قد نفقد شعور الأمان والسلام في بلادنا، لكن لم يتوقفوا هنالك بل استطاعوا تجاوز معضلة الألم والخسارة, إنها قوّة الحياة, فالحياة أقوى من الموت. لذلك تداهمنا في الحياة أقدارحكمها الله لنا قد ترضينا فنسعد بها، وقد تحزننا فنحاول تغييرها، لكن ما الحل أمام قدر لا نستطيع تغييره ؟ إننا غالبا ما نغمض أعيننا كي لا نرى فظائع هذا العالم, وننسى أن عذابات بشر لا نعرفهم قد تكون في يوم ما عذاباتنا, قد نكون مكانهم ويكونون مكاننا, ويمكن أن يصبحوا في يوم ما أصدقاءنا. أحيانا تكون الشجاعة بالاستسلام وقبول القدر، نعم استسلم أمام قدرك وارض به، لا نحّمل أنفسنا عبء ما لن يتغير، اللوم والعتب والانتقام قد لا تورثنا الاّ الألم والجزع فقط، حاول أن تصنع قدراً جديداً بدل أن تتباكى أمام ما انتهى ستمّر علينا دائرة الحياة، مهما استعذنا من وقوعها، لست أحرض هنا للتشاؤم لكن هذا هو الوجه الآخر للحياة، فلا أجمل من راحة يوفرونها أصدقاء يستمعون إليك، ويعرفون أنك بحاجة إلى التحدث عن خسارتك، بعضهم سيفهمون على الرغم من أنهم قد لا يعرفون كيف سيتجاوبون، لكن أكبر دعم هو ما يوفره لنا الأصدقاء والأحبة والأهل من التفّهم والمواساة والدعم النفسي الحياة تخلق أفكارنا، وأفكارنا تصنع شكل الحياة التي نريدها ونحن من نسيطر على المواقف في الحياة وعلى الأفكار التي نريد لها أن توجّه حياتنا.. مليكة اوفقير أكبر مثال أدبي قرأته في كتب السير الذاتية «السجينة»رواية السجينة عمل إنساني حقيقي لذا يترك تأثيرًا أكثر إيلامًا وعمقًا من العمل الأدبي الخيالي، يحكي حياة مليكه أوفقير وعائلتها التي عاشت بداية حياتها في القصور الملكية لينتهي المطاف بها سجينة مع عائلتها في زنزانة تحت الأرض لمدّة عشرين عاما بدون سبب، الملك محمد الخامس جعل مليكه مع ابنته الأميرة أمينة كالأختين. وبعد موت العاهل المغربي تبناها الحسن الثاني وأكمل تربية الاثنتين. عندما بلغت مليكه السادسة عشرة عام 1969 خرجت من القصر لتعيش مرة أخرى عند عائلتها. وفي عام 1972 قام والدها أوفقير بمحاولة اغتيال الحسن الثاني لكن فشلت عمليته. فقتل على أثرها وسجنت عائلته تسعة عشر عامًا. مليكه أوفقير ابنة الجنرال أوفقير لم تكن إلا ضحية مشاكل سياسية قذفت بها وعائلتها إلى السجن .تقول مليكه «كيف لأبي أن يحاول قتل من رباني وكيف للأخير الذي طالما كان لي أبًا آخر أن يتحول إلى جلّاد» ! فليرحل ربيع العمر عني .. لا أبالي. لن أصف السجن القذر والعمر الضائع لها تحت الأرض، لتعرف ذلك ما عليك إلا أن تقرأ الرواية، لكن سأتحدث عن مليكه بعد أن خرجت من السجن على مشارف الأربعين ،وحيدة، لا عمل لا حياة لا ذكريات.. تقول مليكه «كل شيء كان يدفعنا إلى أن نكون من بين الأموات.. ونحن كنا نناضل ونأمل أن نكون من بين الأحياء» الم تراود مليكه وإخوتها أفكار كالانتحار كالانتقام ؟! في الحقيقة «بلى»، لكن الانتصار على النفس وهزائمها كان هو التحدي الأكبر، وكان هو ما ميّز قصة مليكه وعائلتها..إيمانهم الدائم أن خلف هذه التجربة تكمن حياة أخرى وخبرة نفسية وروحية كبيرة، الأمل في ما يحمله الغد من مفاجآت كان دافعا كبيرا لهذه العائلة.. «أنا أيضاً أدركتُ ذلك، هذا السعي الحثيث إلى العيش حتى اليوم التالي دون أن أعرف حقا لماذا. هل غريزةُ البقاء، أم هي الأمل، وقوة العادة؟ أجهل ما يجعل اليائسين إلى التمسك بالبقاء إلى أقصى حد» إن قرار الموت سهل جداً، قرار الحياة هو الأصعب ,, هذه باختصار حكمتي الحياتية الصغيرة, لأني كثيراً ما كنت أتساءل كيف لمن عاش تلك الحياة ولمن ذاق كل ذلك العذاب أن تعود له الطمأنينة والسكون ؟!! بعد كل تلك السنوات الجحاف القاسية، بل كيف لها أن تستعيد عمراً ضاع خلف القضبان، إن العمر إذا مضى لا يعود!!