سيطر مسؤولو وزارة المياه والكهرباء وشركة المياه الوطنية على المشهد الإعلامي بعد أن زادت الشكاوى من ارتفاع قيمة فواتير المياه إثر التعديلات التي أُقرت بداية العام الحالي على أسعار المياه وتعديل الشرائح والارتقاء بالصرف الصحي، ولا يختلف أحد على رخص أسعار المياه قبل التعديل الأخير إلا أن الارتفاع الكبير الذي ظهر بالفواتير التي أصدرت طرح التساؤلات على الخلل الذي حدث حيث إن تفصيلات زيادة الأسعار التي أعلنتها الوزارة سابقاً لا تتناسب مع بعض القيم العالية التي استلمها المشتركون، ويؤكد ذلك أن المسؤولين طالبوا المواطنين بعدم السداد للفواتير محل الخلاف إلا بعد التأكد من عدم وجود خلل. لكن الواقع يُوضح بأن شركة المياه لم تكن قد جهزت نفسها جيداً لهذه التغييرات فالاعتراضات تضمّنت عدم القناعة بالمبالغ التي أُقرت بالقراءات للعدادات، وهذا يعني أن قِدم العدادات وعدم تغييرها أو إصلاحها لم يتم بخطة منذ سنوات تلت تأسيس الشركة، بل حتى تحديث البيانات للعملاء حيث اشتكى بعضهم بحسب ما قالوه عبر وسائل إعلام عديدة بأن أرقام اشتراكاتهم مكررة بأكثر من وحدة سكنية كمثال يدل على ضعف بالتجهيز للبيانات إن صحت هذه المعلومات فكان من الأجدى أن يتم التأكد من الجاهزية التامة لكل العدادات والبيانات وكذلك الطلب من أصحاب المنازل أو العمائر لتغيير الوحدات بدلاً من شموليتها بوحدة فقط لتكون بأكثر من وحدة واحدة في حال كانت مفصولة لا أن يطلب من الناس عموماً اللجوء لهذا الحل بعد أن تم تعديل الأسعار أي الاستعداد كان يفترض أن يكون منذ سنوات. أما في الجانب الاقتصادي لتوفير المياه وتكلفتها فحسب بعض الأرقام الرسمية تبلغ تكلفة المتر المكعب الواحد 6 ريالات، بينما ذكر في تقرير نشر بالعام 2015م من وزارة المياه عن العام 1435/1436هجرية أنه تم معالجة تسربات وفرت 485 مليون متر مكعب، وذكر أن تكلفتها تبلغ ملياري ريال أي أن تكلفة المتر المكعب 4.12 ريال وليس 6 ريالات، وقد يضاف بعض التكاليف كالصيانة والتوصيل والمحطات... إلخ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يخسر الاقتصاد والمجتمع بتوفير مياه بجودة عالية وكميات مناسبة في حال كانت الفواتير أقل من تكلفتها بكثير؟ الجواب على هذا السؤال بسيط ومعروف، فالمياه تحقق فوائد كبيرة للاستهلاك البشري كالارتقاء بالصحة العامة للفرد وتقلل كثيراً من الأمراض، فلو قلّت جودة أو كمية المياه الكافية لكل السكان فإن احتمالية زيادة الأمراض كبيرة، وبذلك سترتفع التكاليف والنفقات على الصحة والعلاجات وتزداد الأوبئة، وذلك سيكلف خزينة الدولة والأسر عشرات المليارات بما يفوق تكلفة إنتاج المياه، وسيمتد الأثر إلى تقلص إنتاجية الفرد بالمجتمع سواء بالعمل أو بالتعليم أي أن الضرر سيلحق بالقطاعات الإنتاجية بشكل عام، كما أن توفر المياه للأعمال الصناعية والزراعية والخدمية له انعكاس إيجابي كبير بالاقتصاد والناتج المحلي، فإذا كان الناتج المحلي غير النفطي قد وصل إلى ما يقارب 1.4 تريليون ريال بالعام الماضي، فإن لتوفر المياه وجودتها أثراً بارزاً في ذلك نتيجة حيوية المجتمع وكذلك تحريك القطاعات الإنتاجية فيه بمختلف الأنشطة، ويشابه ذلك توفير المدارس والمستشفيات لتحقيق أهداف أخرى أكثر فائدة للاقتصاد مما ينفق عليها، فالدولة أسست مدناً كالجبيل وينبع ورأس الخير لكنها حققت بقيام صناعات ضخمة فيها نتائج ومكاسب تفوق تكلفة إنشاء هذه المدن بأضعاف. أما عن زيادة الاستهلاك فإن متوسط نموه للفرد بلغ 2% ما بين عامي 2010 إلى 2014 بينما نما الاستهلاك الكلي 5% لذات الفترة كمتوسط سنوي، وبحسب بيانات وزارة المياه فإن معدل استهلاك الفرد المصنف من الأعلى عالمياً عند 260 لتراً يومياً له أسباب عديدة، لكن حتى نعرف من أين جاء هذا النمو بالاستهلاك لا بد أن ننظر إلى الزيادة بالسكان من أين أتت، فبحسب إحصاءات رسمية بين عامي 2004 إلى 2014 كانت زيادة المواطنين 25% من 16 إلى 20 مليوناً تقريباً، وهي تأتي من الفرق بين المواليد والوفيات بجلها كزيادة طبيعية فهل المواليد والأطفال عموماً يستهلكون 260 لتراً يومياً!! أما النوع الثاني من الزيادة لذات الفترة فكان من الوافدين كعمالة بنسبة 50% من حوالي 6.5 مليون إلى ما يقارب 10 ملايين أي ما يقارب 4 ملايين وافد نظامي كزيادة وهم أصحاب استهلاك ناضجين أي متوسط استهلاكهم ما يقارب مليار لتر يومياً ولا مشكلة بذلك من حيث إن زيادتهم أتت بسبب الإنفاق الكبير على المشاريع وغير المسبوق بحجمه، فما دمت استقدمتهم فلا بد من توفير الخدمات لهم لكن يبقى للضغط على الخدمات ونمو الطلب عليها الأثر البالغ بزيادة الاستهلاك بفترة قصيرة نسبياً، مما يعني أنه وبعد الانتهاء من غالبية المشاريع وتقلص عددها الذي بدا فعلياً نتيجة تحقيق العديد من الأهداف التنموية بإقامتها ستقل العمالة خصوصاً بقطاعات التشييد مما يعني احتمالية تراجع الاستهلاك بنسبة كبيرة مستقبلاً أي أن الحسابات لتعزيز الخدمات لا بد أن تأخذ بالحسبان النمو الطارئ بالسكان وتبعاته والذي حصل بالسنوات الأخيرة هذا بخلاف العمالة المخالفة والتي رُحّل منها أكثر من مليونين منذ بداية حملة تصحيح أوضاع العمالة قبل أكثر من عامين، أي أن هناك مستهلكين لم يكن معروفاً عددهم بدقة وهم مخالفون لأنظمة الإقامة بالمملكة، ويشكّلون عبئاً ليس بالبسيط على الخدمات وعلى رأسها المياه والطاقة عموماً كالمخالفين للحج والعمرة والزيارة أو المتسللين والذين تم التشديد عليهم لمنع بقائهم بالمملكة كونهم مخالفين وهو ما أظهرته أعداد المرحّلين. المياه مورد اقتصادي رئيس وبالغ الأهمية والتأثير بمختلف نواحي الحياة ولا يمكن تقديمها مجاناً أو شبه ذلك وأيضاً لا يمكن تغطية تكاليفها أو جزء كبير منها حتى يكون إنتاجها مجدياً، فالأثر الاقتصادي والاجتماعي لتوفيرها وانعكاساته يضاهي تكاليفها بأضعاف، لذلك فإن التوازن بتسعيرها خصوصاً من ناحية الشرائح ومضاعفاتها له تأثير إيجابي كبير على الطرفين المنتج والمستهلك، ويبقي على الفوائد الكبرى كما هي سواء بالصحة العامة أو الصناعة والزراعة وكافة الأنشطة بالاقتصاد مع استمرار حملات التوعية بالترشيد وإعادة دراسة سبب ارتفاع الاستهلاك بمختلف جوانبه التفصيلية حتى تكون المعطيات والمخرجات محققة للقراءة الصحيحة وينتج عنها قرارات فعالة وصحية، فإذا قيل يجب تقليص إنتاج الألبان لأنها تستهلك ماءً كثيراً وكذلك بعض المنتجات الغذائية أو التحويلية حتى نوفر المياه فإن ذلك يُعد تراجعاً كبيراً بإنتاجية السلع والذهاب لاستيراد أغلبها مما تحقق به اكتفاء ذاتي أو بنسبة كبيرة من الاحتياج محلياً، ويعني ذلك خسارة استثمارات وفرص عمل وتصدير للأموال لأجل الاستيراد، فالحلول كثيرة وتتطلب تخطيطاً متكاملاً بين كل الجهات والأطراف.