البوح هو إحدى ملذات الشعر التي يجدها الشاعر قبل المتلقي يوثقُ بها حالةً شعورية يعيشها، ولكنها في أحيان أُخرى قد تكون بمثابة رسالة أخيرة يطلقها الشاعر في تنهيدة أحاسيسه الأخيرة كوصيّة مودّع! ما تعيش القصايد في رجا من قرا! فالشاعر هنا يكتفي من قصيدته بنفثه لهمومه وحسراته، مشيراً إلى حالة اليأس والإحباط التي ربما يعانيها بعد أن رأى آماله تتعلق بحبال الريح. قبل مولد قصيدة كم توفّى شعور! وكأنه يؤكد أنه يطلق بوحَه عزاءً لنفسه وتخليداً لذكرى جميلة عاشها، بما أورد من مقابلة بين لفظي: مولد وتوفّى! كنت أحيك السوالف لين صوتي سرى! فكم نسج من الأحلام وحاكَ من الآمال ورسم من الأُمنيات ولكنه وجد أن صوتَه يضيع بلا «همسة صدى توصل» ولا بارقة استجابة. وصرت أدوّر لصوتي أي سكة عبور! فأصبح يبحثُ عما يمكن قوله تسليةً لفؤاده وإكراماً لإحساسه ووفاءً للحظات تروّى لذّاتها. آخذ بخاطر اللي خاطره ما بَرَا! فهو يحاول تضميد جراحَه وتطبيب قلبه الذي ما زال يحملُ جرحاً نازفاً وإن تجرّع الصبرَ حتى اعتاده..! غصب عن عين قلبي صار قلبي صبور! ثم في وصف جميل يرسم إحساس الشاعر ويهيج تباريحه، يقول: الحبايب منافي والرفاقه ذرى! فالحبايب الذين نحبهم ونمنحهم سلافة الروح عشقاً وتولّهاً لا يلبثون أن يصبحوا (منافي) عند حدوث الفراق! وإن أكد الشاعر في البيت التالي أن الفراق كان رغماً لا اختياراً، فلم يكن هجراً ولا صدوداً فتبقى الأحاسيس حبيسة القلوب رغم وحشة البعد وطول الفراق ونأي المزار وهذا الذي سيتخذه الشاعر باعثاً للأمل بوصل جديد. ثم يؤكد الشاعر أن الفراق كان لا رغبةً بل استجابة لظروف حياتية وإلاّ فمحبوبته لم تقابله بالصدود ولم تبادرْهُ بالهجر بل كانت تسعدُ بوصاله وتستبشرُ بلقائه فهو يعذرُ غيابها لعلمه بما تكنُّ له من حب ثقةً في شعورها وامتناناً لوفائها! وهنا أذكر قول أحدهم: فيقول شاعرُنا: كانت هذه مقدمة عزائية لقلب الشاعر فهو الذي يطلقُ بوحهُ ويطببُ جرحَ فؤاده ويؤكد ثبات الشعور وإن طال البينُ ويعذرُ محبوبتَهُ التي غابت قسراً، ثم يعود لأنّاته فيقول: آه وش حيلة اللي قطّْ همّه ورا!؟ فهو الذي ينعشُ روحَهُ بأمل العودة وتجديد الوصل فيحاول أن يتناسى غربة الروح التي يعيشها ولكنه يعجزُ أحياناً فتباغتهُ الذكرى ويرى طيف محبوبته. وكلما لدّ شافه يسبقه بالحضور! وكأنه يعيد ما قاله المبدع الكبير سليمان المانع: فهو هنا بين بهجة الأمل ووحشة الواقع فطيفُ ذكراه تقطعهُ حسرة الفراق وطول البعد يؤنسُهُ بقاء الشعور ونور الأمل وعهدُه بوفاء محبوبته! لذلك يعود للتأكيد على ما يجده تجاه محبوبته بأبلغ أساليب الإثبات (النفي والاستثناء): وكأنه يعيد ما قاله أمير الشعر خالد الفيصل: وإمعاناً في الجمال نجد أن حتى المستثنى هو بعضٌ من كل فلا يشاركك المكان في صدري إلا وجهُك الذي استعذب جمالَه وأستلذُّ سناه، وهمسُ النبضات الذي يناديك وكأنه يحاول أن يحيي الأمل من جديد فما زال في بوحه ما يتمنى أن يصل محبوبته وكأنه قد أنعشَ الشعورَ الذي ذكرَه في مطلع القصيدة (قبل مولد قصيدة كم توفّى شعور!). وهكذا هم المحبون يحْيَيون على الأمل ويعمرُ وجدانهم التفاؤل رغم أوجاع الحب المحببة لديهم كما يقول أحدهم: لذلك وتأكيداً على عودة الأمل يقول (في مقابلة جميلة) بين حالة اليأس والأمل: فإن جعله يبكي بالشعر (البوح) فقد كان قلبه يثجّ بالحب، ثم يقابل كل ذلك بالنتيجة: صرت.. فالمعنى (قد ماني... صرت!) فمقابل امتداد بكائه شعراً وما سفحَ قلبُهُ نبضاً فقد صار يرددُ بكاءه الشعري أغان وأمنيات إلى أن أوجسَ في نفسه خيفةً من أن يطول الفراق! وهنا أيضاً أذكر قول المبدع الكبير نايف صقر: وفي رجاء قلق يغلّفُه الشاعر بأسلوب تحذيري، فيقول: فيورد كلمة ظلمت ليقول إن طول الغياب ظلم يعصفُ بالمُحب حتى وإن عذر غيابك مرغما!، ثم يُلمح محذّراً أن المسافة (وهنا يقصد المسافة الزمنية) قصيرة في تقلّب الأيام وتغيّر الأحوال التي فقد تذيق محبوبته نفس الكأس وكأنه يذكرها بقول الشاعر: وجادت بوصل حين لا ينفعُ الوصلُ! ثم يطلق تنهيدته الأخيرة لتلفظ القصيدة أنفاس عتبهُ الأخير، فيقول: القصيدة رائعة فوق حدود الإبداع ولا أراها إلاّ (لشاعر) ذي عاطفة (وارفة) بما حملت من روح حالمة ومشاعر خصبة وخيال مجنّح وأسلوب سَلس وتلقائية محببة في التعبير.