المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعراء السعوديون يتغنون في الوطن منذ تأسيسه
نشر في المواطن يوم 23 - 09 - 2013

رافق الشعر مراحل تأسيس الوطن منذ الخطوة الأولى لها ، واستمر معها ، مصوراً ومشيداً وموضحاً لثوابته الإسلامية المتينة ، ولأهدافه السامية ، وقد صرخ الشعر مدوياً ومعلناً استبشاره بالوطن ، ثم مفتخراً به وبتوحيده ، وهاتفاً بكل جزء يمثله ملكاً وشعباً وتاريخاً وأرضاً ، وهذا هو الوطن في مجموعه ، لا يمكن فصل ركن منه عن الآخر، وقد كان الشعر قبل التوحيد وبعده تسيطر عليه نغمة حماسية مجلجلة ، وعواطف مشتعلة ولغة فخمة راقية ، تعكس عظمة المرحلة وجلال الموقف .
التغني بالوطن :
أما التغني بعشق الوطن ومناجاته في الشعر السعودي فغرض شائع وواسع ، وتبلور بشكل لافت بعد التوحيد ، ونستطيع أن نقول: إنه المرحلة الثالثة لشعر الوطن، فلا يكاد يخلو ديوان من أمثال هذا الشعر الغنائي ، الذي يحوي مشاعر ملتهبة بالعواطف المتوقدة والمتأججة بحب الوطن ، ونقصد بهذه الجزئية أن يبوح الشاعر بمشاعره بصورة ذاتية، بمعنى أن يتغنى بمشاعره الوطنية ، في شكل مناجاة ، أو مخاطبة ذاتية حميمة للوطن، يدل على هذا قول فؤاد شاكر في (مجد الوطن):
مجدي لمجدك ينتمي وطني فديتك بالدمِ
وطني وذكرك سائغ كالشهد ينضح في فمي
وطني وقدرك شامخ كالشمس فوق الأنجم
أنت العرين لكل ليث من العرين وضيغم
سعدت بعهد مشرق ومحت دياجر مظلم
هذا هو البيت الحرام وتلك دار الأرقم
هذي معالمنا هي للمفاخر تنتمي
شرفت بدين محمد وزهت بقدر المسلم
وطني فديتك بالدم
ويقول محمد إبراهيم جدع (1330ه – 1398ه) في ( نشيد البلاد ) :
يا بلادي أنت في دنيا حياتي كل آمالي وأقصى أمنياتي
فيك أحيا وأناجي مكرماتي وعلى أرضك أقضي واجباتي
أنفق العمر لأحيا في بلادي موضع العز ومهد المكرمات
وطاهر زمخشري (1332ه – 1407ه) ذلك الشاعر الرومانسي، يهتف بالوطن ويتغنى بحبه بنغمة هادئة وألفاظ هامسة ، قائلاً في قصيدة (بلادي) :
بلادي فداؤك روحي وعيني لنور يشع من المسجدين
بلادي بلادي بلاد الهدي تجاوزت بالمجد أقصى المدى
فكنت نشيداً طروب الصدى وما زال يهتف في الخافقين بلادي
والشاعر محروم أو الأمير عبدالله الفيصل (ولد عام 1341ه) يشدو بالوطن نشيداً طروباً ، ويبوح له بهواه ، مركزاً على الأماكن المقدسة التي نعمت بالعناية والرعاية ، يقول في (نشيد الفداء):
أفديك يا وطني إذا عزّ الفدا بأعز ما جادت به نعمُ الحياهُ
كل الوجود وما احتواه إلى الفنا إلا هواك يظل مرفوعاً لواهْ
يا مهد أجدادي يا كنز أحفادي
يا ظلّ أمجادي
منك الشجاعة والكرم فيك المروءةُ والشَّممْ
تعلو بعاليك الهمم لتظل مرفوع العلم
أهوى ثراك الطاهر الغالي أهوى سماك ومجدك العالي
يا فجر أحلامي وآمالي تحيا وتحلو في مغانيك الحياةْ
أهوى الذي يهواك يا وطني وأصدُّ من عاداك يا سكني
يا مهد إسلامي ، يا وحي إلهامي ، يا عزّي النّامي
يا موطن الفضل النّدي يا أصل كل السؤدد
ما بين أمسك .. والغد وضح الهدى بمحمد
صلى عليه الله وهّابُ الحياهُ
يا من إذا صلى امرؤٌ أو سلما كنت الحمى المأمون يا نعم الحمى
وإذا امرؤ للحج جاء محرما كانت رعايتك الحفية بلسما
عش موطناً للمجد يرعاك الإله
لقد امتزج في هذا النص عظمة الوطن وشموخه ورهافة المشاعر ورقتها ، فقد اختزل الشاعر بعبارات مكثفة سمات الوطن السعودي على اختلافها ، من خلال حسٍّ وطني مرهف ، وساعد الشاعر على ذلك التوزيع الموسيقي الجديد ، الذي منح الشاعر حرية ، وانطلاقة في البوح .
وحسين عرب يردد نغمة الوطن قائلاً:
السعودية يا أغلى ديار أنت للدين والدنيا منار
وحّد الله لها أقطارها وسما البيت بها أسمى شعار
مملكة العدل ومعدن الفضل
نهضة شاملة كاملة تنشر العلم وترعى الأدبا
وقوى رادعة مانعة تنصر الدين وتحمي العربا
في خدمة الإنسان على مدى الزمان
أما الشاعر أحمد قنديل (1332ه – 1399ه)، فيرى أن الإفصاح عن العواطف الوطنية ، والهتاف باسم الوطن غير كافٍ ، بل لا بد من العمل الدؤوب لخدمة الوطن وإعلاء شأنه ، في نص شعري سماه : (بلادي) :
بلادي أين من يصبو إليك عند ذكراك ؟
ومن إن مسك الكرب وناديت فلباك ؟
ومن يركض ، أو يحبو إذا ما المجد ناداك ؟
إلى أن يقول :
بلادي في دمي أنت هوى ينساب دفاقا
وفي الأحشاء قد عشت فؤاداً عاش خفاقا
والعواد أيضاً يقول:
وما حبك الأوطان دمعاً تريقه وتشتاق داراً أو جداراً مهدما
ولكنه أن تجهد النفس مساعيا لتلبسها ثوباً من المجد معلما
وفي (بلادي) يقول العواد أيضاً – في هذا المعنى –([65]) :
بلادي ، ومرتع أمنيتي
ومنشا مجدي بل منيتي
سلام عليك بلاد الحياة
بلاد الذكاء بلاد العرب
بني أمتي ، واصلوا غايه
إلى الالتقاء بني أمتي
إلى أن يقول :
سلام على العرب الناهضين
أسود الجزيرة أبطالها
عظام الخليقة والنبعة
وإبراهيم الدامغ (ولد عام 1357ه)يتغنى بالوطن وبمجده وبحبه قائلاً في (بلادي) :
بلادي بلاد العلا والكرم ومهد القداسات منذ القدم
رواها انطلاقي عبير الشمم وروَّى ثراها بعرف الجدود
بلادي سرى حبها في دمي ورفَّت أغاريدها في فمي
ويهتف حسن عبدالله القرشي (ولد عام 1344ه)بالوطن مركزاً على خصيصته حيث هو مأوى المقدسات الإسلامية ، قائلاً:
موطني يا قداسة الزمن الها دي ويا نبع فخره وازدهاره
موطني ياصُبابة الوحي في الكون ومجلى العلويِّ من تذكاره
يا رعى الله من خلودك روضا زاهيا بالهتوق من أطياره
يفتديك الشباب بالدم مطلولا فلتدم بشفاره
ومحمد هاشم رشيد (ولد عام 1349ه)يتغنى بالوطن ، ويشدو باسمه قائلاً في (بلادي الحبيبة :
سلاماً .. سلاماً .. منار الكفاح
ومهد البطولات .. منذ القدم
على ربواتك .. يزهو الصباح
وفوق سهولك يسمو النغم
بلادي الحبيبة .. يا قبلة
لكل البلاد .. وكل الشعوب
حواليك تهفو .. طيوف المنى
وحول حماك ترف القلوب
ويبدو أن النغمة المسيطرة على بعضٍ من هذه القصائد التي يتغنى فيها الشعراء بالوطن ، هي نغمة تقترب من الإنشاد الجماعي ، مما يرشح تلك النصوص لأن تكون صالحة للغناء ؛ وذلك لمساعدة هذه النغمة السريعة على سهولة الحفظ والترديد ، ومن ثم بث الحماس .
ويفتخر أحمد سالم باعطب (ولد عام 1355ه) بوطنه السعودي وبمجده وحاضره وماضيه ، معتمداً على اللمحة الخاطفة لملامح الوطن ، قائلا :
قف على منبر الفخار ونادِ أنت للخير منبع يا بلادي
عبق المجد في ربوعك يسري عمَّ خُضْرَ الربى وحمر الوهاد
والبطولات في سمائك نشوى أثلجتها ضراوة الآساد
فتية تعشق السموَّ وتنأى عن مهاوي الضلال والإفساد
عانقوا شمسك المضيئة عزمًا حملوا مشعل الهدى والرشاد
إيه يا موطن القداسات تيهي وانثري النور دافقاً للعباد
فعلى أرضك النبواتُ سارت مشرقات سخية الإمداد
أنت مثوى السلام والحب في الأرض ومأوى القساور الأمجاد
وللشاعر إبراهيم العواجي (ولد عام 1358ه)، غنائية هامسة عذبة للوطن، يبوح فيها برومانسية مرهفة بمشاعره الصاخبة للوطن، أسماها (موطني):
منذ الطفولة شعَّ في نفسي ضياك
وألفت أن أبقى سعيداً في رباك
ونعمت من خيرات جودك ، من عطاك
وشعاع شمسك حين ترسله سماك
بالرحمة الكبرى العميقة .. من رؤاك
ومنافع شتى يجود بها ثراك
سأذيب نفسي كي أشيد من علاك
حتى أرى التاريخ يقبس من سناك
والبواردي عاشق الأرض الذي خصص ديواناً لهذا الوطن، تغنى بهذا الوجد والحب الجارف لموطن المقدسات الإسلامية قائلاً :
موطن الوحي على واديك طافت أمنياتي
فيك .. في سهلك بل في صخرك لملمت شتاتي
ورفعت الرأس حراً .. هاتفاً .. من كل ذاتي :
عشت حراً وعزيزاً .. عشت موفور الحياة ..
عبر صحرائك .. عبر الشمس . والريح العنيدة
عبر أنفاس الخزامي .. وسواقيك البعيدة
عبر هاتيك البوادي والنخيلات المديدة
عبرها أبصرت نفسي أبصر الشعب وجوده
ألف ميل .. ألف ميل ظلل الأمن سماها
غنائية عذبة تنضح بدلالة الجزيرة العربية وملامحها، وتشكل لهذا الشعر هوية خاصة ومميزة ، ترشحه لأن يكون شعراً متميزاً ، ودالاً على هذا الوطن الشامخ الذي ظلل الأمن سماءه .
ويمتزج الوطن بالروح والجسد ، بالأهل والولد ، بالماضي والمستقبل ، إنه عالم الشاعر بأكمله ، تتجلى هذه المعاني عند د. غازي القصيبي (ولد عام 1359ه) ([77]) الذي يتوحّد مع موطنه ويراه في كل ما هو جميل ونفيس ، ويهمس له بمشاعره الضاجة بالوله والهيام ، قائلاً([78]) :
أحبك حتى التوحد .. يا وطني
مولدي فيك عرسي
وموتي عرسي ..
ودمعي إذا ما رأيتك عرسي
وأنت رجائي .. ويأسي
وبدري .. أنت .. وشمسي
نخيلك يغسل بالطلِّ رأسي
ورملك نُقلى .. وكأسي
فدعني أحبك من كل أوجاع روجي
وغصة قلبي .. وحرقة نفسي ..
وكُن حين أفزع حضني وأمني
كأنك أنت .. كأني!
كأني إذا ما ضممتك .. أهصر يومي وأمسي
كأني إذا ما لثمتك
ألثم راحة أمي .. وجبهة ابني
وأحضن جيلاً يجيء إذا غبتُ ..
يطرب حين يردد جرسي
فدعني أحبك من كل حزني
ودعني .. دعني .. دعني .. دعني
والقصيبي له عدد من القصائد التي تتميز بحسٍّ وطني ظاهر ، فالوطن هاجسه الذي يتغنى به . وقد لجأ في بعض قصائده إلى الرمز للوطن ، من هذه النصوص التي غلفت بحس رمزي شفيف ، حوارية حميمة ، شخص فيها الوطن بصورة أم رؤوم يحاورها وتحاوره ، ويلقي بنفسه فوق رمالها الدافئة ، ويغسل في صحرائها عناءه من تعب الحياة وطوال الرحلة ، وذلك في قصيدة (يا صحراء):
وطفت الكون لم أعثر
على أظهر من حبك
أو أعنف من بغضك
وعدت إليك .. ألقيت بمرساتي
على الرمل
غسلت الوجه بالطّل
كأنك عندما ناديتني
وهمست في أذني :
"رجعت إلي يا طفلي ؟"
أجل .. أماهُ .. عدت إليك
طفلاً دائم الحزن
تغرَّب في بلاد الله
لم يعثر على وكره
وعاد اليوم يبحث فيك عن عمره
وعدت إليك يا صحراء ..
ألقي جعبة التسيار
أغازل ليلك المنسوج
من أسرار
وأنشق في صبا نجدٍ
طيوب عرار
وأحيا فيك للأشعار ، والأقمار
إن الصحراء بقسوتها ووحشتها تشكل لوحة ملونة لأبنائها تزخر بالجمال والبهاء ، ورأينا كيف أجاد الشاعر في تعبيره عن ارتوائه من صحراء وطنه السعودي ، معتمداً على الرمز الشفيف الظاهر المكشوف ، مثل الصحراء السافرة المشرقة ، التي هي سمة الوطن السعودي ومعلم بارز من معالم هويته .
ومن هذا المنطلق فقد تعددت أساليب التعبير أو البوح بعشق الوطن تبعاً لتطور الشعر السعودي ، فقد أفاد الشعراء من التقنيات الشعرية المعاصرة ، ووظفوها داخل قصائدهم الشعرية ، فالشاعر د. إبراهيم العواجي له (نفحات وطنية قلما تجدها في شعرنا المعاصر . ويكاد يكون شاعرنا منفرداً بين أقرانه ، ووصفائه من الشعراء السعوديين بخاصة ، والعرب بعامة . وتتجلى هذه النفحات في كل لون من ألوان شعره حتى الغزل ) .
ومن هذه القصائد التي يمتزج فيها الوطن بالحبيبة قصيدة (لا تطفىء النار) : التي كتبها عام 1408ه ، منها :
لا شيء يطفىء وهج الوجد فاتقدي يا نار سمرٍ وزيدي جذوتي لهبا
وأشعلي حمم الأشواق في كبدي فإنني عاشق يستهلم الوصبا
أرى الحياة بدون الحب باردةً صقيعها يقتل الإحساس والطربا
ثم يدخل الشاعر في جوهر النص ليكشف عن هوية المحبوبة :
فللحب نداء العقل مهزلة وللتراب مذاق المركم عذبا
أحتار أيهما حبي وملهمتي وأصل وجدي ومن كانت هي السببا
ذاتُ العيون التي أسكنتها بدمي وفي قصيدي وفي قلبي وما وجبا ؟
أم أنها الأرض أعطتني هويتها فصرتُ معشوقها والأصل والنسبا
لا فرق عندي فالأشباه واحدةٌ كلاهما السرُّ ما غابا ولا اغتربا
هما البراءات في شعري وفي سفري وما بلغت ولم أبلغ بها الأربا
والوطن شكّل هاجسا ملحاً لدى العواجي في عدد من قصائده ، فتخللها حسٌّ وطني ، يختلج في ثناياها ، ويرتبط بما يبعث على الفتنة ، ويفجر ينابيع الشعر ، ويؤجج الأشواق ، ففي قصيدته : (مُحاصرٌ سجّانتي مُحاصر) التي كتبها عام 1408ه ، يؤكد على ارتباط المحبوبة بالوطن والوطن بالمحبوبة في قوله :
عيناك يا أسيرة
الأسير
حلوةٌ
فسيحةٌ
نقيةٌ
كتربة الوطنْ
عشقتها
حفظتُها
شربتُ من ينبوعها
حلاوةَ الإحساس
بالزمن
ما أجمل البقاء
في مداهما
نجلاكِ
والوطن
وكذلك الشاعر أحمد الصالح (ولد عام 1361ه) يرى أن الحبيبة والتاريخ والوطن كلٌّ لا يُجزأ " للشعر نكهة الأحباب وللأحباب نكهة الوطن ، والوطن هو القصيدة التي لا تشيخ ولا تبليها الألسن ولا تملها الأسماع ... وبين الحبيبة والوطن لا يملك الشاعر إلا أن يلغي الحد الفاصل بينهما ... إن هوى الحبيبة بعض هوى الوطن ، إنهما في الشعر لغة واحدة وفي العاطفة والشعور وحب الحياة حبيبان لا يفترقان مسكنهما قلب الشاعر يخفقان مع نبضاته ويستكنان في دمه وعقله ، يظهر هذا في كثير من قصائده ، التي منها قصيدة : (وطن) ، التي مزج فيها عشق المحبوبة بعشق الوطن ، واستعمل أسلوب الإيهام في قوله :
أنت في الأعماق إيم ان وكل الغيدُ رفضُ
أنت لي شمس وظل أنت لي بحر وأرضُ
لغة تزهر في الح رف وفي الأجساد نبضُ
ديمة تمطر حباً فإذا الإلهام فيضُ
وطن يمتد عشقاً حبه في القلب محضُ
أنت لي فيه الخزامى وهو ما شاب غضُ
أنت واحات وبيدٌ في انثيال الشوق ومضُ
طقسك الفاتن شعرٌ سحرك الظالم بعضُ
بين عينيك وقلبي وطنٌ تقواه فرضُ
لقد اختلطت ملامح المحبوبة بقسمات الوطن وتضاريسه ، وامتزجا معاً في صورة ورؤية واحدة ، لا يمكن تجزئتها ، فالمحبوبة تتحد مع الوطن ، بل هي الوطن بكل ملامحه الصحراوية الفاتنة ، فهي الديمة التي تمطر فتحيي الأرض العطشى ، وهي الخزامى برائحته العطرة ، وهي الصحراء بقسوتها ، وفيء واحاتها ، إن العاطفة الوطنية لا يمكن فصمها عن العواطف الأخرى التي تموج بها نفس الإنسان ، أو عزلها في مكان خاص ، بل إن الوطن هو أساس تلك العواطف ؛ سداها ولحمتها .
خصائص شعر التغني بالوطن :
لقد تميز شعر الوطن في مرحلته الثالثة – أي بعد التوحيد ، والاستقرار – بنهوض الذاتية جلية في القصائد الوطنية ، فقد برزت المشاعر الملتهبة والعواطف القوية ؛ التي تجلّت في التغني بالوطن وحضارته الحديثة بفخر واعتزاز ، أما الشعر الذي رافق التأسيس وأشاد بالتوحيد فهو يركز تركيزاً كبيراً على إيجابيات العهد السعودي ، وما صنعه في الوطن من إخصاب واخضرار وأمن وأخوة وتآلف ، وقبل كل ذلك الأساس الإسلامي المتين . كل ذلك من خلال عواطف صادقة ضاجة بعشق الوطن والهيام به ، ولغة حماسية مجلجلة ، فلم يترك الشعراء في تلك المدة مناسبة وطنية دون أن يصدحوا بها مستبشرين هاتفين .
كما برز في هذه المرحلة – الثالثة – ترديد الشعراء لمصطلح (وطني) و (بلادي) بغزارة ، وكأنهم يتلذذون به بعد أن كان قليل الاستعمال في حقبة ما قبل التوحيد : فقد ترددت مسميات أخرى مرادفة – سبقت الإشارة إليها – مثل الأوطان ، بلاد العرب ، جزيرة العرب ، نجد والحجاز ... مع التسليم بوعي شعرائنا الرواد في تلك المدة بمعنى (الوطن) وفكرته ، ولكن لكل مرحلة تاريخية سماتها الخاصة حتى في المصطلحات والألفاظ .
وقد تفاوتت أشكال التعبير عن العواطف الذاتية ، وتباين الشعراء في نوعية تغنيهم بعشق الوطن ، فبعضهم اعتمد على كشف عواطفه والإفضاء بها بشكل مباشر ، وبأسلوب حماسي قوي ، وآخرون باحوا بعواطفهم الوطنية بغنائية ذاتية وبحميمية شفافة وبلغة هامسة ، ومنهم من اتكأ على مناجاة الوطن ، وهنالك من لجأ إلى أسلوب الإيماء والرمز للوطن ، وذلك بالاعتماد على خصيصة الوطن السعودي . وبعض من الشعراء مزج الوطن بالتاريخ والحبيبة والمستقبل ، فالوطن لا ينفصل عن ذات الشاعر وذات الآخر الذي يتعلق به الشاعر ، وكتب عدد من الشعراء قصائد وطنية على هذا النمط الجديد .
الحنين إلى الوطن :
وأشد ما تتوقد العواطف الوطنية وتفور عند فراق الوطن ، ففي الغربة يحنُ الشاعر إلى وطنه ، مهما كانت الغربة تزخر بالإبهار ، والشعر العربي المهجري شاهد على ذلك ، فقد أبدع المهجريون في تصوير غربتهم وحنينهم إلى أوطانهم ، وهو نتاج غزير يفيض عذوبة وصدقاً .
والغربة مهما حوت من جمال وحضارة براقة فإنها لن تغني الأديب أو الإنسان بشكل عام ، ويظل الوطن هو الصدر الحاني الذي يغمر أبناءه بالحنان والحب .
وغرض الحنين إلى الوطن ظهر في الشعر السعودي بشكل بارز بعد الاستقرار والتوحيد ، وبعد أن زاد الاتصال بالعالم الخارجي ، على شكل بعثات دراسية ورحلات وغيرها ، والسبب في ذلك أنه قبل استقرار الوطن كانت الغربة محصورة داخل الوطن نفسه من مكان لآخر ، وهذا قد لا يسمى غربةً بمعناها الواسع .
وقصائد الحنين إلى الوطن تشغل حيزاً ليس بالقليل من الشعر السعودي ، وتختلف مضامينها من شاعر إلى آخر ، بحسب توجه كل شاعر ومنهجه ، وإن كانت تنطلق من مبدأ واحد هو تأصل عاطفة حب الوطن لدى الشعراء السعوديين .
وللشاعر عبدالكريم الجهيمان (ولد عام 1333ه) ، نص شعري ينضج بالتشاؤم والشكوى من الحياة والناس ، وزاد تشاؤمه وقلقه حدة غربته عن وطنه ، يقول في وصف حاله في الغربة ، محاوراً الوطن في قصيدته (أنَّة غريب) ، التي تعكس انكسار الذات ، وهزيمتها ، أمام جبروت أصدقاء المصلحة وطغيانهم ، والغربة عن الوطن :
ذاب من فرط شوقه وجداني وأتاني من الهوى ما براني
وتذكرت – في البعاد – بلادي وتذكرت – في النوى – إخواني
وتصورت بلدتي وضحاها وهواها وطيب تلك المغاني
وتجولت بالخيال ملياً في رباها بمدمع هتان
إن مرآى القيصوم والشيح والحوذ ان أشهى من زخرفات المباني
يا بلادي إليك أشكو رفاقي يا بلادي إليك أشكو زماني
يا بلادي سئمت من كل شيء غير ذكراك إنها في لساني
ففؤادي إليك يخفق شوقاً وعيوني إلى رباك روانِ
فاسلمي وانهضي وعيشي بعز في مغاني العلا ونعم المغاني
ويزداد لهيب الشوق للوطن اشتعالاً ، عندما يُمنى الغريب عن وطنه بالبؤس والشقاء ، وفي ذلك يقول محمد حسن فقي – ( ولد عام 1331ه ) -عام 1364ه في نص شعري سماه (الحنين إلى الوطن) :
واهاً من الدهر ومن تعسه فقد سقاني المر من كأسه
يا دهر إني خائف من غدي مخافة المفجوع في أمسه
فلا تزدني شقوة بالنوى عن موطني الغالي وفردوسه
وكم غريب ود لو أنه كالسهم ما أرسل عن قوسه
عانى من الغربة ما بعضه يُشوق الحي إلى رمسه
لا أهله يلقى ، ولا صحبه ولا مكاناً كان من غرسه
ولا شعوراً كان براً به ولا حناناً عاش في قدسه
يا دهر إن المرء من أرضه جزء فما يُعذل في هجسه
وفي ختام النص يناجي وطنه قائلاً :
يا موطن الشعر وأحلامه ويا نجيَّ القلب في همسه
إذا نزحنا عنك من سلوة فلا وقانا الضر من مسه
فيا رعاك الله من موطن ترابه يبريء من لمسه
قمة التصوير الشعري المرهف لحال الغريب النائي عن وطنه ، ومع ما تموج به الأبيات من حسٍّ تشاؤمي صارخ لنفسية الشاعر ، فإن هذا التشاؤم يعكس حدة التوتر والقلق الذي سيطر على الشاعر ، وزاده ثوراناً بعده عن موطنه ، والأبيات تضم ألفاظاً عذبة رقيقة ، زادها همساً تلك القافية الخافتة التي تصور أنيناً متوجعاً ، لا بكاءً زاعقاً .
وفي الحنين إلى الوطن في الغربة يقول أحمد قنديل (1329ه – 1399ه) في قصيدته (حنين :
أرقت وكم في الليل مثلي وهاجني إليك هوى تحيا به روح شاعر
بلادي بلادي لا عدمتك موطناً حبيباً إلى قلبي ، ونفسي وخاطري
ذكرتك والذكرى حياة لرامق غريب شجي القلب بالليل ثائر
ذكرتك في مصر العظيمة بالذي به مصر قد فاقت جميع الحواضر
إليك بلادي فكرة وعقيدة سمت بها فوق الطلاب مشاعري
إلى مكة في قدسها وجلالها وعزتها الكبرى على كل كابر
إلى طيبة في عزها وعلوها وخضراتها الخضراء مجلى النواظر
وطاهر زمخشري تبعده الآلام الجسمية قسراً عن وطنه السعودي فيقول([93]) :
في دمي ثورة الحنين لهيباً ليس يطفيه من عيوني نمير
وبنفسي لوافحٌ من جوى الشجو على خافقي لظاها يثور
كلما ناح طائر فوق أيكٍ كان لي من نُواحه تذكيرُ
فترامت خوافقي أغنياتٍ من فؤاد برجعها مخمورُ
لحمى البيت عن أكرم وادٍ غير ذي الزرع وهو روض نضير
للقداسات في ذرى مهبط الفرقان للخير وهو فيض وفيرُ
وفي قصيدة أخرى تنضح بالشوق العارم والحنين القوي للوطن ، يقول في (موطني) :
موطني لا تزال تلهم قيثاري ، فينساب بالفؤاد نشيدا
يتهادى به الحنين فيجري باستياقي على المآقي عقودا
والقداسات في مرابعك البيض حسان بها أهيم عميدا
إن نأت بي عنها مراجل آلامي ، فما زلت في رباها قعيدا
والنوى عارم يدغدغ إحساسي ، ويذكي بين الضلوع وقودا
وفي جمال الغربة – أحيانا – وأضوائها البراقة ورباها الخضر ، يظل الشاعر وغيره متعطشاً إلى نسيم الوطن وإلى ظله الوارف ، يجسد تلك الرؤية محمد علي مغري (ولد عام 1322ه) ([95]) في قصيدته (إشراق) قائلاً :
يا بلادي هاهنا الدنيا فنون من فتون
كل شيء تبصر العين عظيم في العيون
هاهنا علم ومال وعقول وصناعة
وفنون ونظام وجمال وبراعة
هاهنا تسعى الفتنة مثلما يسعى الزمن
كلما تبصره العين من الحسن حسن
غير أني يا بلادي لك أهوى لك قلبي
كل حين أنت في ذكراي نار مثل حبي
فلتجدي يابلادي لتنالي المجد رفدا
ولينل شعبك أمجاداً وآمالاً وسعدا
خصائص شعر الحنين للوطن السعودي في الغربة :
لعل المتمعن في نصوص الحنين إلى الوطن لدى الشعراء السعوديين يجد ملحوظة تستحق التوقف عندها وهي خلو هذا الشعر من التحسر على حالة الوطن ، بل على العكس من ذلك يزداد الفخر بالوطن لدى الشعراء السعوديين في الغربة عندما يوازنون بينه وبين ما يرونه في غيره .
ويمكن القول إن ثوران العواطف الوطنية على أشدها ، وبروزها بشكل ملتهب يكون في وقت اليقظة والنهضة ، وفي الغربة والبعد عن الوطن ، أو عند الأزمات والحروب ، أو الاعتداء على الوطن ، وفي هذه الحالات يفرز الشعراء شعراً قوياً صادقاً مؤثراً ، وذلك لارتباط الوطن بعز الإنسان وحميته وكرامته . وشعر الوطن السعودي في مراحله كافة ؛ لم يخبُ ، ولم يضعف أو يصب بالركود أو الخمول ، بل بدأ متوهجاً قوياً منذ اللبنة الأولى التي انطلق منها تأسيس الوطن ، وسيبقى – بإذن الله – على تألقه ؛ لأنه لم ينبع ولم ينشأ من رغبات شخصية أو أرضية ضعيفة ، بل ارتكز على الشريعة الإسلامية الغراء لا انفصام بينه وبين ما تأمر به ؛ وتلك مقومات الوطن .
وقد سيطر على شعر الحنين للوطن في الشعر السعودي نغمة حزن باكية ، ورومانسية مكتئبة ، تعكس بكل وضوح ارتباط الشاعر السعودي بوطنه ، الذي يمده بالراحة النفسية والسخاء العاطفي .
ملامح شعر الوطن السعودي وسماته :
إن من يستقرىء النصوص الشعرية الوطنية التي كتبها الشعراء السعوديون ، سيجد كماً شعرياً غزيراً غزيراً ، منذ أن بدأت مراحل تأسيس الدولة ، أما قبل ذلك فقد اختفى – أو كاد – الشعر الوطني من الجزيرة العربية ، وكان بعضهم يتغنى بمكانه الذي يقيم فيه فقط دون انتماء أوسع ، ففي الحجاز مثلاً يتغنى شعرؤاه بالأماكن المقدسة ، وفي نجد يصفونها ويتحدثون عن بعض أماكنها ... – مع التسليم بقلة هذا الشعر – فقد خبت العاطفة الوطنية الشاملة ؛ لانطفاء الدافع الذي يشعلها ، فالتشتت والتفرق والانقسام في الجزيرة العربية جعل الشعراء لا يجدون الحافز المثير للتعبير عن الوطن والشدو به ، فاقتصروا على بيئاتهم الخاصة فقط ، حتى ذكرهم لهذه البيئات كان قليلاً ، يفتقد الشعور القوي بالانتماء .
وقد برز شعر الوطن السعودي أثناء تأسيس الدولة ومنذ أول بذرة لها ، بدأ متوهجاً قوياً شارحاً الأسس التي قامت عليها الدولة السعودية ، ومجسداً البون الشاسع بين حالة الجزيرة العربية وما كانت فيه من خوف وفرقة وما صارت إليه من أخوة وأمن ، ثم أشاد الشعر بالتوحيد ، وهذا الحدث الجلل تغنى به الشعراء بنشوة الظافر وبهجة المسلم الذي يرى الإسلام قد عاد قوياً في الوطن الذي انبثق منه نور الإسلام . والشعر الوطني السعودي لم ينته عند التوحيد ، بل استمر على عنفوانه مشيداً بالنهضة ومتغنياً شعراؤه بالوطن بعد أن طاول السحاب عزة ، وشموخاً ، وجاوز هامة المجد رفعة .
وقد تميز شعر الوطن السعودي بملامح وقسمات جعلت له شخصية مميزة وخاصة ، ومن أبرز السمات الظاهرة لهذا الإبداع في الشعر السعودي بروز الهوية السعودية في هذا الشعر ، فأغلب الشعر الوطني العربي ربما يفتقد هذه الخصوصية ، مما يجعل المتلقي يميز شعر الوطن السعودي عن غيره ، مثل ترديد مفردات الصحراء وما يتصل بها من شيح وعرار وقيصوم ونخيل ، ولأماكن جغرافية ترددت في الشعر العربي القديم ، ولا عجب في ذلك فالجزيرة العربية هي منبع الشعر وموطن فحول الشعراء العرب منذ أساطين المعلقات ، ومما زاد من بروز الهوية أو من أهم معالم الوطن التي برزت في هذا الشعر أو كانت سمته التي تفرد بها ، هي : الهوية الإسلامية ، فلا يكاد يخلو نص من ذكر للأماكن المقدسة والتغني بها ، والتركيز على إبرازها ؛ لأنها من خصائص هذا الوطن السعودي ، وهذا ما أسبغ على هذا الشعر روحانية شفافة ، وأبعده عن القومية المرفوضة .
أيضاً من أجلِّ ميزات هذا الشعر هو اختفاء العصبية والدعوة إلى الإقليمية التي ذمَّها الإسلام ، وتركيز الشعراء على وحدة المسلمين ، والتغني بوحدة الوطن ، الذي يعني الأخوة والتآلف الذي دعا إليه الإسلام .
ومما يتصل بهذه الناحية هو اختفاء الأحزاب والتكتلات في هذا الشعر في أي شكل من الأشكال سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم عقدية ، مما يدل دلالة قاطعة على وحدة الوطن ، ووحدة التوجهات والأهداف ، والتحام الشعب مع الحكم ، هذا الحكم الذي يقف على ثوابت العقيدة الصافية التي كانت الأساس المتين للدولة السعودية منذ بذرتها الأولى متمثلة في الدولة السعودية الأولى ، ويجسد ذلك قول ابن خميس في (النشيد الوطني) مشيداً بالوطن وبأبنائه وحُكمه :
قد هدانا مُنزلُ القرآن حكمهْ ودعانا – مذ دعانا – خير أمةْ
وحبانا صفوة الأكوان رحمهْ في ظلال الشرع والبيت المشيد
ومن هذا المنطلق فالالتزام الإسلامي ظاهر لدى الشعراء ، برز في سلامة أفكارهم من الانحرافات العقدية والفكرية ، مما يدل على صفاء عقيدتهم من الشوائب ؛ فلا مذاهب دينية ولا أحزاب سياسية تتخبط في دياجي الفرقة ، وتضيع في بحار المصلحة .
كما اختفت المعاني والألفاظ التي توصل الوطن إلى مرتبة التقديس ، أو تجاوز الحد والتطرف في التعبير العاطفي المرفوض ، كما يبدو من قول شوقي في وطنه :
ولو أني دُعيت لكنت ديني عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فُهمت الشهادة والمتابا
والشاعر السعودي عبدالوهاب آشي (1323ه – 1405ه) يقول في التحية الوطنية :
ياموطني حييت من وطن تحييك الدهور
فلأنت بعد الله لي أسمى المقاصد والأمور
إن صفاء العقيدة هو الكفيل بحماية الأمة وفكرها من الزلل ومن تسرب الأفكار الهدامة .
كما أكثر الشعراء من التغني بالأمجاد الإسلامية التي كانت الجزيرة العربية مسرحاً لها ، وبرز هذا الملمح أو كان في أوج عنفوانه في الحقبة التي رافقت التوحيد وما وليها مباشرة ، ودائماً يكون الفخر بالتاريخ وذكر المناقب والبطولات في وقت النهضات التي ترافق يقظة الأمة ؛ لذا كان أغلب الشعر الذي أشاد بالتاريخ ؛ رافق التوحيد وزامنه ، وهذه نتيجة بدهية ، ومن هنا فإن أغزر الشعر الذي ركز على التآلف وجسد العواطف الصارخة التي تحكي بلسان الأمة كان من الرعيل الأول أو جيل الروّاد ، وهذا محصلة طبعية لاستبشارهم بوطن ناهض ؛ فقد عانوا قبله من القلاقل والنزاعات مما يدل ويثبت أيضاً أن الشعور بالانتماء للوطن لا ينمو ولا يتعمق إلا في ظل استقرار سياسي أولاً ، وهو الأرضية الثابتة للبناء الإيجابي ، يشهد على ذلك غزارة شعر الوطن بأشكاله وصورة كافة بعد تأسيس الوطن السعودي بعد أن كان شاحباً ضعيفاً ، لدى شعراء الجزيرة العربية ، فمن يتصفح دواوين الشعراء السعوديين سيجد أن الشعراء قد أفسحوا للوطن مساحات عريضة في شعرهم .
أيضاً بدا واضحاً ميل بعض الشعراء إلى التعبير الرومانسي عن ولعهم بالوطن – وبخاصة شعر الحنين في الغربة – عن طريق محاورة الوطن وبث الأشواق والهموم والمعاناة الذاتية ، مجسدين منه صدراً حانياً يتلقى شكواهم ، ويغمرهم بالحب والحنان ، وهذه النوعية من البث العاطفي فرضتها الظروف الكئيبة المعاصرة والمحيط بالإنسان العربي والمسلم ، مما حدا بهؤلاء الشعراء إلى استنطاق هذا الوطن الذي كان شاهداً على أمة سادت العالم وتزعمت البشرية ، ولعل هذا من أبرز المسببات التي جعلت الشعراء يفرون من الحاضر إلى التاريخ ، ويربطون الماضي بالحاضر ويستبشرون ببلادهم السعودية التي رمزت إلى الوحدة الإسلامية ، وكانت نموذجاً مشرقاً للدولة الإسلامية بكل ملامحها ومقوماتها .
وقد تنوعت الآليات والأدوات الفنية التي سخرها الشعراء ليفرغوا فيها أفكارهم ، وترددت بين الغنائية والموضوعية ، فبعضهم اتكأ على البوح أو الغناء المباشر بأحاسيسه وعواطفه ، وآخرون اعتمدوا على عنصر الدراما والحركة والحوار ، والرمز ، لكشف عواطفهم وأفكارهم .
وقد عكس شعر الوطن السعودي ملامح الوطن وتوجهاته وقيمه ، وكان لساناً ناطقاً لمشاعر الأمة ، ومؤكداً التحام الوطن السعودي بأركانه كافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.