تعليقاً على مقال الأستاذة فوزية الجار الله (أَما مِنْ منقذٍ للكتابِ وللكتابة؟!) فلماذا نحن متخلفون؟ وعن ركب الحضارة بعيدون؟ وإلى المجهول سائرون؟ إلى أين نحن عابرون؟ كل هذه الأسئلة وغيرها حيرتنا ونحن نتابع ونراقب أوضاع العالم عامة والمنطقة العربية بخاصة. حروب وانقلابات واحتجاجات وطائفية وغيرها من المشكلات التي قصفت حاضر المنطقة ورمت بها في دوامة من المجهول. المشكلة الكبيرة هي أننا خلال هذه الأزمات اللا متناهية في المنطقة العربية لم نر نخبنا المثقفة تتصدر المشهد في توصيف الحوادث ومحاولة تفسير الظواهر لإيجاد الحلول لهذه المشكلات العديدة، بل كل ما نرى سفهاء وجهلة يتصدرون الساحات والفضاءات والقنوات وفي كل المواضيع يتحدثون ويناقشون وإن استلزم الأمر يفتون في أمور الدين والدنيا. لسنا بصدد التحدث عن أشخاص معينين في هذه المقالة، بقدر ما نصف الوضع العام الذي تمر به الساحة الثقافية والعلمية والسياسية في العالم العربي. فرغم أن المكتبات العامة والخاصة في كل الدول العربية والإسلامية تقريباً قد امتلأت وضجت بالكتابات المتنوعة وبآلاف الكتب والدراسات الجامعية والبحثية الصادرة سنوياً، إلا أنها لم تقدم لنا حلولاً عملية من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه ولو وجدت هذه الحلول لا نرى لها تطبيقاً على أرض الواقع، لكننا متأكدون أن أهداف معظم المحللين والخبراء والأدباء الذين يصدرون كتاباتهم وأبحاثهم هي الإصلاح دون غيره وإن كان بعضهم يريد الشهرة وربح المال. إن مشكلة النخب العربية بمعظمهم أنهم ما زالوا يعانون من عقدة «الأيديولوجيات» في الكتابة وفي النقد، وأنهم لم يتخلصوا منها، لذلك يلاحظ من يقرأ أعمالهم، طغيان الجانب العاطفي أو العقائدي على كتاباتهم أكثر من الجانب التحليلي. وهنا يشير الدكتور حسن مسكين في كتابه «أزمة النخب العربية - الثقافة والتنمية» إلى أن التوظيف المسرف للأيديولوجيات للنخب العربية المثقفة بكل توجهاتها اليمينية واليسارية والوسطية، كان سبباً في إخضاع شعوبها، وتدجينها لتكون في كل المجالات تابعة ومسيرة باسم ما تعتبره هذه الاتجاهات سلطة النخبة التي تملك الحق في الزعامة والقيادة، والتوجيه من أجل إبعاد الشعوب عن المشاركة في بناء المجتمع وإصلاح أحواله. كل هذا أدى إلى اختفاء وتبخر الشعارات اللامعة التي كانت تنادي بها هذه التيارات المدعية للديموقراطية والحرية والعدالة، لأنها بكل بساطة بعيدة عن الممارسة داخل تنظيماتها الحزبية والجمعوية وبرامجها السياسية. فالقومي عندما يتحدث أو يكتب، لا يمكن له أن يتخلص تماماً من قوميته وكذلك الشيوعي والعروبي والإسلامي والسلفي والإخواني وغيرهم من المفكرين والباحثين العرب. كما يعاني المثقف العربي من مشكلة الأنا المتضخمة، فمن سطع نجمه أو تذاكر الناس اسمه، تتغير معاملاته وأحواله وأقواله بسبب هذه الشهرة. وفي هذا الصدد، يعتبر أن من المفارقات المميزة للمثقف العربي رغبته الملحة في التغيير، لكن ذلك يكون من منطق الوصاية لا المحاورة، من خلال فرض حقائقه الثابتة، وهو يهدف إلى التأثير في العامة، وعينه على الخاصة في الوقت نفسه، ويقول بالانتماء إلى العامة، وفي ذاته الداخلية إحساس بالفوقية والتعالي على العموم». فمخاطبة الناس من الأبراج العاجية واعتبارهم أدنى منه كمثقف، لأنه يمتلك وفق ظنه الحقيقة، كانا السبب في تطور القطيعة بين النخب والمواطنين العاديين. فربما ترى دكتوراً في علم الاجتماع لما يحاول مخاطبة العامّيّ، لا يستطيع تبسيط المعلومة وتقديمها سهلة إلى المتلقّي، بل دائماً يحاول إبراز عضلاته اللغوية من خلال تكراره المصطلحات الخاصة بعلم الاجتماع لشخص لا يميز بين الناقة والجمل كالبنائية الوظيفية والكمي والكيفي والنوعي وغيرها من المصطلحات المعرّبة. وقس على هؤلاء الدكاترة في علم الاجتماع وغيره، وآخرين في مجالات أخرى كالتاريخ والقانون والعلوم وغيرها. وما يمكن استنتاجه هو أنه هناك انفصام واضح بين ما يصدره مثقفون من خطابات، وبين ما يطرأ من تحولات سريعة في واقعنا المجتمعي، الذي يكذب هذه الأفكار التي تشبث بها هؤلاء المثقفون بوصفها حقائق، بينما الوقائع تقول إنها مجرد أحلام وأماني وأوهام. وفي الأخير، لا يمكن لنا أن نناقش هذا الموضوع وأن نحلله في بعض الأسطر، لكن كفى من القلادة ما أحاط بالعنق ونرجو أن نرى نخبنا المثقفة من إعلاميين وصحافيين وخبراء ومحللين ودكاترة يتجردون من أجل البحث عن الحقيقة وإنارة الرأي العام، لا من أجل نصرة مذهب ما أو حزب أو أيديولوجيا أو حاكم معين.