بالقليل كنت أمارس بعض حالات الشوق. ارتديت معطفي الأسود الأنيق. سكبت بعضاً من ملمع الشفاه على سبابتي، ومررت السبابة بشفتي السفلى، ثم طبقتها مع العليا بحركة شبه دائرية. جلست صوب ذاكرتي أراقب ملامح رفيق قديم علمني كيمياء الأحلام. قال ذات شتاء: (ضعي بعضاً من السهو في زجاجة العطر الفارغة، مع القليل من شارد الملامح العابرة. رجي الزجاجة جيداً بعد الاستعمال). ديسمبر.. الأشياء تتسللني. كل الأشياء وبإصرار: رائحة الخبز وعين طفل لم يذق الخبز منذ يومه السابق؛ فمشى يلوك ذكرى «قعر العيشة الجاف» بلذة ويقين. تتسللني ضحكة مريم آخر الليل، الضحكة الدبغة من أثر مؤثر شبق. وهديل حمامة منتصف السهو لم تفرق بين الليل والصباح. حالة من النعاس انحشرت في كلي حين غناء باهت الحنجرة اغتصب مسمعي. أسرعت لأُسكت المذياع، لكنه كان قد تسللني. وجه الحداد و»تكريجة» أسنانه الآيلة للسقوط من فرط السعوط يطاردانني. نعم، وجه الحداد والتكريجة نفسها كلما قد سروالي الأزرق الأنيق.. كرسي أجلس عليه أقصى حديقة الشتاء. تباً، غداً سأضع قطعة من الخشب بدلاً من الحديد المتهالك. سمية وهي تنوء أشعلت من ذاكرتي الجزء الخاص بحوجة الأرامل للذكريات. أذكر أن أرملة تكتب الحزن في قلبها بذات فراق لم يمهلها لتعطر الحجر، وتمسح أنف طفلها الوحيد، وتجمع قوارير شراب زوجها الذي شرب وشرب وشرب... حتى تشرب جسده بالسكون فتقاعس عن روحه وسكت. ديسمبر.. وقبيل الفجر تتفتق الحديقة بشتى أنواع العطر، حتى «الونكا» العجوز المتصابية تحاول إغراء الفراش؛ علَّها تفوز بقبلة ولو ضالة صباحاً. العم آدم يهش البعوض رغم لذة الحكاك. في المسافة الفاصلة بين سور الحديقة ومعطفي يتمدد البرد، ويتحين لحظة تسللي؛ عسى أن يشعر بالرعشة التي كانت ترسلها أطرافي كلما لامسها. حالة من السكينة الآن تسخر من قوانين الارتباك وأنا أراقب دبيب الزمن في جسد حديقة الشتاء المرحة.