تحدثتُ في مقالة سابقة عن أن الشاعر ربما تحوّل من (فاعلن) إلى (فعولن) بدون أن يشعر بهذا التحول الذي هو في حقيقته اختلال في الوزن. أما دافعي إلى كتابة هذه المقالة فهو تطلّب الدقّة في الإيقاع.. فمَن تأمّل كثيراً من كتب العَروض تأكد له رهافة أذن العربي الموسيقية؛ فتجده يميل إلى بعض الزحافات التي تحسّن الإيقاع؛ لأنه لا يقنع بجواز الأمر عروضياً فحسب، بل يسمو إلى جمال الإيقاع، فتقرأ قول بعض العروضيين عن البحر الوافر مثلاً: «والتمام في هذا البحر أحسن من العصْب. والنقص فيه قبيح، وهو في مجزوئه أقبح» [نزهة الأبصار في أوزان الأشعار، 185]، ويقول آخر عن الوافر أيضاً: «يدخل حشوَ هذا البحر من الزحاف العصْبُ بحسن، والعقل بصلوح، والنقص بقبح» [العيون الغامزة، 165]، وفيه هذا القول تفصيل دقيق لما يحسن، وما يجوز، وما يقبح من الزحافات والعلل. بل إن العروضيين يستحسنون العصْب في الوافر -كما أوردتُ-، وهو زحاف يدخل مفاعلَتن (محركة اللام) فتصير (مفاعلْتن/مفاعيلن) ساكنة اللام؛ لأنها تخفف التفعيلة من توالي ثلاثة متحركات فتجعل الإيقاع أخف. كما أن بعضهم يقول عن البحر الطويل: «وتمام فعولن فيه أحسن من قبضه» [نزهة الأبصار، 127]، لأنها إذا قبضت صارت فعولُ وجاء بعدها مفاعلين، فتوالى ثلاثة متحركات. وأن تكون تامة فلا يتوالى إلا متحركان أخفُّ في السمع، وأعذب في الإيقاع. ويطرأ على أوزان الشعر العربي ما يطرأ من تحوّل، وتطور، ومن ذلك أن تفعيلة البحر المتدارك (فعلن) ربما اُستعمِلتْ في العصر الحديث (فاعلُ) بتحريك اللام، وهو أمر مقبول موسيقياً، إلا أن الشاعر يأتي ب(فاعل) ثم يأتي بعدها ب(فعِلن) محرّكة العين، ومن هنا ينتج توالي خمسة متحركات، وهو أمر غير مقبول عروضياً، وما ورد من ذلك في كتب العروض فإنما جيء به للدلالة على شذوذه، ومثل ذلك توالي أربعة متحركات. وإذا استعمل الشاعر فاعلُ فلا يمكن التخلص من هذا التوالي إلا بمجيء فاعلُ بعدها، في حشو البيت، أو استعمالها فعْلن مقطوعة، أي بسكون العين. يقول نزار قباني [أشعار مجنونة، 60]: غنّي، ابكي، عيشي، مُوتي كي لا يروَى يوماً عني أني كنتُ أضاجعُ شجرهْ حيث جاء خمسة متحركات متعاقبة من جيم (أضاجع) حتى راء (شجرة). ومن أكثر مَن رأيت في استعمال (فعلن) في شعره التفعيلي هو حسين علي محمد الشاعر الناقد المصري -رحمه الله-، وقد وقع كثيراً في هذا الخلل الإيقاعي، يقول [حدائق الصوت، 84]: يا زينب، يا صاحبة الصوت الحلو تعالي، في صوتك أتنشق عطر الفجر، ومن تاء (صوتك) حتى نون (أتنشق) توالى خمسة متحركات. ومن ذلك قول محمد بن جبر الحربي [الجزيرة الثقافية، 8/3/1437ه]: «والشِّعرُ بطولِ الشجَرِ يقولُ سلامُا للهِ عليكم أحبابي»؛ إذ توالى من شين (الشجر) إلى قاف (يقول) خمسة متحركات؛ فقد جاء بتفعيلة فاعلُ، ثم فعِلن (متحركة العين). وربما استعمل الشاعر (فعلنَ) بتحريك النون! وهو ما لم يرد أيضاً في عروض الشعر العربي، ولا بد أن ينتج عن ارتباطها بالتفعيلة بعدها خمسة متحركات على الأقل، ومن الشواهد في هذا الصدد قول محمد بن جبر الحربي في قصيدته التي سبق ذكر مصدرها: «الطيرُ على الشجرِ يقولُ سلامُ الله على الأحبابْ»، ومن شين (الشجر) إلى قاف (يقول) توالى خمسة متحركات؛ لأنه استعمل (فعِلنَ) متحركة العين والنون! بل إن حسين علي محمد استعمل فعِلنَ متحركة النون بين فاعلُ وفعْلن؛ فتوالى في السطر سبعةُ متحركات! وذلك في قصيدة: فواصل من سيرة الموت [حدائق الصوت، 24]: هو ذا يبصر نخلتها الفرعاء يحاصرها القيظ قوافلها الغبراء مبللة بالخمرة والطيب وشهوة شبق سفينتها والمتحركات السبعة من واو (شهوة) حتى فاء (سفينتها). ولمعرفة أن قراءة الشاعر في العروض مهمةٌ حتى لا يقع في مثل هذه الهنات التي ربما لا يُتنبّه لها أستشهدُ بقصيدة عبدالله الرشيد: هي هي، لا مفرّ [قنديل حذام، 71]، حث وردت لفظة (الكلمة) خمس مرات في قصيدة على المتدارك زاوج فيها بين العمودي والتفعيلي، فاستعملها بكسر الكاف وسكون النون (الكِلْمة)، ولو كانت بفتح الكاف وكسر النون لانكسر الوزن.