جثا على ركبتيه.. وقد أشخص بصره نحو حقل القمح الذي أمامه.. سيقان السنابل تتناثر في الحقل، متعلقة به بعض الوريقات الصغيرة التي تتدلى في خجل، وخوف من السقوط.. ما الذي حدث؟! ما هذا الأمر الجلل الذي أصاب زرعي؟ أسئلة كثيرة دارت في داخله.. قبضة يده كوَّرت ثلة من تراب رطب قرب الساقية.. آه، آه.. زفرات حرّى أطلقها صدره الذي يغلي كالمرجل مما حدث. أعاد شريط الذاكرة لثلاثة أشهر خلت.. إذ كان يصلح الأرض، وينقيها من الشوائب، وحصيَّات كانت دخيلة على أرضه النقية.. كان يعقد آماله أن يتحول تراب هذا الجرين إلى سنابل ذهبية، تحمل حبات القمح.. يحلم أن براعم السنابل ستنضج، وتصير حبات تتمايل مع السنبلة، تتراقص مع نسمات إبريل المتقلب المزاج. وبعد أن تنتهي حفلة الرقص تتساقط في الحقل، وتتحد لتكون مجسمًا بديعًا كأحد الأهرام المتحركة.. لكنه استيقظ هذا الصباح على رحيل هذه الأحلام التي واكبت الحقل: لحظة بلحظة.. سنبلة سنبلة.. كان يمني النفس أن ينصرم الشتاء؛ ليحين وقت الصرام.. وقف، وأطال النظر في السنابل الميتة والمتناثرة على جنبات الحقل، وسقطت منه دمعة، واكبتها تساؤلات محزنة.. لماذا ماتت هذه السنابل؟ لماذا رحلت الروح عنها؟ لماذا كل هذا؟ وأنا الذي لم أقصِّر في رعايتها، والعناية بها، وإطعامها.. لوهلة..!! توقف عن محادثة النفس، وابتعد عن حقله وهو يتمتم بصوت لا يسمعه إلا هو: السقوط بداية النهوض.. السقوط لا محالة سيتلوه نهوض..