ربَّما لا تكون الأحساء رواية سقطت من أساطير (ألف ليلة وليلة)، ولكنَّها على تماسٍّ بهذا السقوط الفاتن. ففي الواقع الأحسائي، لا تستقيل الأسطورة من عملها ولا يعتزل الخيالُ احترافَ إبداعاته. هذه الأرض بطنٌ ولاَّدةٌ لم تضق قطُّ بتفريخ القصص والحكايات. منذُ البدايات.. وهي ما تزال واقفةً تصهر سبائك الرمال الذهبيّة في شمس الخلود وتصنع السوار الساحليَّ الذي يطرِّز ذراع (الخليج). باختصارٍ خجول، هذه هي الأحساء التي اصطفاها الزمنُ لتكون شاهدةً على أن الحضارات الخالدة هي تلك التي تبوحُ بالعطر وتهمسُ بالنغم.. لا تلك التي تُلَوِّحُ بالبارود وتتعلَّكُ بالرصاص. وبتفصيلٍ جريء، أُعَرّفُها فأقول: إنَّ الأحساء هي نُطَفٌ من الهواجس القلقة، مُكتنزةٌ بالترقّب الغائرِ في جوف اللهفة إلى المجهول، لا تدري ما الذي يترجرجُ به ماء الخلق في رحم الغيب: هل يعودُ بنو (عبد قيس) إلى ينابيعهم التي لفظتْ أنفاسَها؟ هل ينبعث فرسان (بكر) الذين أنجبتهم حرب (البسوس) صناديدَ هيجاء؟ هل يعلن الشعر انتماءَه إلى (طرفة) أم إلى خاله (المُتَلَمّس)؟ والقرامطة، هل بوسعهم أن يتمرَّدوا على التراب وأن ينسلُّوا من الأكفان؟ وهل... ؟! التقت الأحساءُ بالحقل ومضيا يتجوَّلان في الأزقَّة وينثرانِ خُطاهما الأنيقةَ في الدروب حتى امتَزَجَتْ رائحة المكان بما يشبه الأحلام الطفوليّة البسيطة. ذاتَ ربيعٍ قديمٍ، تَزَوَّجَها الحقلُ زواجاً كان الأَزَلُ أحَدَ شاهِدَيْهِ.. في طفولتها المُبَكّرة، التقتِ الأحساءُ بالحقل ومضيا يتجوَّلان في الأزقَّة وينثرانِ خُطاهما الأنيقةَ في الدروب حتى امتَزَجَتْ رائحة المكان بما يشبه الأحلام الطفوليّة البسيطة. ذاتَ ربيعٍ قديمٍ، تَزَوَّجَها الحقلُ زواجاً كان الأَزَلُ أحَدَ شاهِدَيْهِ، وتآلفا حدَّ الإنجاب المُبكّر الذي تَمَخَّضَتْ عنه شيخةُ الفصول الأربعة التي قَفَزَتْ من جذورها في باطن الأرض وأَلْقَتْ بِجدائلها على الآفاق فابتلعتِ الأزمنةَ والأمكنة.. تلك هي شاعرة الرمل والماء.. شاعرة الحرّ والقرّ.. السيِّدة النخلة. منذ ذلك الحين، بَقِيَتِ الأحساء تستيقظُ على وقع أقدام الفجر فترى الطبيعة بانتظارها في كلّ مكان.. تسمع نداء الليمون وصراخ عرائش الكروم وصيحات أزهار الرمّان.. تسمعها جميعاً تتضرّع حالمةً بالرضاع، فتدير على صدرها ساقيتينِ من خِصْبٍ وحبّ حتّى تتدفّق المواسم بأنهار الألق وترفرف من عباءة الورد حمائم العبق، فإذا بالمدى واحةٌ من واحات السكينة تمحو من النفوس الضغائن وتملأُ القلوب بالجنائن. بعد كلّ هذه الصبابة الولود، بدأَ السأمُ يتسلّل إلى عروق الحبيبين حاملاً معه وثيقة الطلاق، وثمّة رايةٌ من الأسئلة تنتصبُ في وجه الأولاد المأخوذين بالحيرة: لماذا انطفأَتْ فتيلةُ الخِصْب؟ لماذا غصّتِ الينابيع بالسراب؟ لماذا خَلَتْ مقاعدُ الغصون من تلاميذ الورد وكتب الثمرات؟ لماذا ولماذا ولماذا...؟ فجأةً، ينرسمُ على لوحة المشهد ذلك التنِّينُ الحضاريُّ الأسودُ المسمَّى مجازاً بالنفط.. المدجَّج بأذرعةٍ خُرافيَّةٍ أَخَذَتْ تزرع الأشجار بالمقلوب حتى اختنقت هسهساتُ الأفنان في حضن المروج وفَرَّتِ العصافيرُ من مواطنها حين داهمتها المداخنُ بسحاباتٍ من الأوهام العصريّة.. آه.. كم كبيرٌ هو الفرق بين زغردة العصفور في منفاه على سلكٍ كهربائيٍّ وبين زغردتهِ وهو جالسٌ على عرشهِ/الغُصن أو سُدّةِ حكمهِ/السعفة. والأسفلتُ.. هلِ الأسفلتُ إلاَّ كتيبةٌ من عقاربَ تزحفُ على أيَّام طفولتنا الأُولى غارسةً أنياب الظلام الخشن في جسد الخطوات الطفوليَّة الناعمة؟!