لم يكن مصطلح «الطابور الخامس» شائعا ولا ذائعا قبل الحرب الأهلية الأسبانية التي استمرت ثلاث سنوات من 1936- 1939م بقيادة الجنرال فرانسيس فرانكو (1892- 1975م) الذي أعلن الثورة على الاشتراكيين المنقلبين على النظام الملكي تحت مسمى «الجبهة الشعبية» المكونة من الديموقراطيين والشيوعيين، وذهب ضحية تلك الحرب نصف مليون أسباني خلال ثلاث سنوات فقط، ودمرت نفائس مدريد التاريخية من القصور والكنائس والمعالم الأثرية، وكان لهتلر وموسيليني أثر كبير في ذلك الانتصار ؛ رغبة منهما في كبح جماح المد الشيوعي إلى أوروبا عبر بوابة إسبانيا. ليس الغرض هنا التذكير بالوقائع التاريخية التي مرت في تلك الحقبة السوداء من تاريخ شبه الجزيرة الأيبيرية، ولا ما سار عليه الدكتاتور فرانكو في أسلوب حكمه الحديدي الذي استمر ستة وثلاثين عاما؛ بل انتقاء عبارة وردت على لسان أحد قادته؛ وهو الجنرال « كويبو كيللانو» حين عبر عن خطته للهجوم على مدريد وتخليصها من أيدي الانقلابيين على السلطة الشرعية؛ فقال: «إن لدينا أربعة طوابير تتقدم باتجاه مدريد، أما الطابور الخامس فسوف يتحرك في الوقت المناسب «! لقد أراد كيللانو الإشارة إلى جيش خفي آخر مستتر داخل المدينة على أهبة الاستعداد للقيام بما يجب عليه عمله ؛ لإتمام النصر سريعا. وليس يخفى على النابهين اليقظين خطر هذا الطابور المتخفي المندس في أية أمة أو شعب، فعناصر الطابور الخامس المنافق يعيشون بولاءين وانتماءين ؛ ولاؤهم الكاذب المعلن لنا، وولاؤهم الصادق الحقيقي لأعدائنا؛ فعناص هذا الطابور ينتمون إلينا ويتسمون بأسمائنا؛ ولكن قلوبهم في الحقيقة معلقة بغيرنا، وآمالهم وأمانيهم ليست أمانيينا ولا أحلامنا ؛ بل أماني وأحلام أعداء الوطن والأمة. وفي أزمنة الحروب واشتعال وقود الصراعات بين الأمم والدول تبدأ زعانف أفراد هذا الطابور الخائن في التكشف؛ فلا ينفكون عن استغلال الأزمات العارضة ؛ يبثون الشائعات التي توهن العزيمة، ويرددون الأقاويل المختلقة والظنون الطارئة والمخاوف الناتجة من حالات المواجهة مع الأعداء ما يمكن أن يؤثر في قوة الصمود ووحدة الصف واتحاد الكلمة وارتفاع الروح المعنوية. وإن ما يوجع ويؤلم ويعمق الأسى حقا أن هذا الطابور الخامس قد لا يكون دخيلا غريبا متسللا أو مكلفا أو مرسلا لمهمة اصطياد معلومة أو كشف سر أو بث شائعة ؛ بل قد يكونون من أبناء جلدتنا - وهم وإن كانوا قليلي العدد وفي خانة الندرة - إلا أن واحدا فقط من الخونة المستترين المزيفين يعادل في أذاه وفي ألم خيانته ألفا من الأعداء الظاهرين. ومن هذا النوع القميء ذلك الخائن من أفراد الطابور الخامس الذي لقب نفسه ب»طفشان « الذي حكمت عليه المحكمة بالسجن سبعة عشر عاما ؛ لارتباطه بجماعات إرهابية، وبثه الأخبار الكاذبة، وسعيه عبر تويتر إلى إثارة القلق الاجتماعي بسبب ما كان يزعمه من انتصارات كاذبة للجماعات التكفيرية الضالة. وأمثلة عناصر هذا الطابور من معتنقي الفكر الخوارجي الذين يعيثون فسادا في الفضاء الالكتروني المفتوح ويبثون سمومهم للناشئة والمغفلين وناقصي المعرفة لم يعد دورهم الخياني للوطن وللأمة، ولا عمالتهم لأعداء البلاد، ولا رخص نفوسهم وضعف عقولهم، وفساد دينهم، وانتفاء انتمائهم إلى وطنهم خافيا على المخلصين الصادقين المؤمنين حق الإيمان بقيم الدين العظيمة التي تحرم وتجرم الخيانة والخروج على ولي الأمر أو الشروع في كل ما يمكن أن يسبب الفوضى أو اضطراب مصالح المواطنين وأمنهم واستقرارهم ومعايشهم . إن الخيانة والخونة ليس لهم بدأ ولا نهاية، وليس لهم زمن ولا وطن؛ فهم مع أهوائهم، ومع ما يزين لهم من الوصول إلى انتقام أو أثرة أو مكاسب ذاتية رخيصة، وسلالة «ابن العلقمي» الذي مالأ التتار وأسقط بغداد في أيديهم 656ه تتكرر في كل زمان ومكان، وها هي الأمة تلعنه لخيانته إلى يوم الدين.