منذ صدور قرار مجلس الوزراء عام 12-1-1421ه، والذي قضى بإنشاء الهيئة العليا للسياحة تأكيداً على اعتماد السياحة قطاعاً إنتاجياً رئيسا في الدولة، وحتى القرار الصادر بتاريخ 12-9-1436ه القاضي بالموافقة على تعديل الاسم إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، نشأت ثقافة جديدة ومحترفة في صناعة التغيير، قادتها الهيئة وسط بيئة إدارية في غاية التعقيد ومناخ تنظيمي أكثر تعقيداً، استطاعت من خلالها خوض تجربة فريدة من نوعها في نمط وأسلوب إدارة التنمية السياحية سواء على المستوى الداخلي للهيئة أو على مستوى العمل مع شركاؤها الرئيسيون من القطاعات ذات العلاقة. القريب من بيئة العمل في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني سيكتشف أنه أمام منظومة عمل مثالية، ونموذج محتذى في منهجية صناعة واتخاذ القرار وبناء قدرات ومهارات مسئوليها. ممارسة العمل داخل أروقة الهيئة يشبه إلى حد كبير النموذج الذي قدمه (وليام أوتشي) للإدارة اليابانية بهدف تطوير الإحساس بانتماء الأفراد للمؤسسة التي يعملون فيها وجعلهم مساهمين بشكل أكثر في إنتاجيتها ويشعرون بأنهم جزء من منظومة العمل تلك من خلال الأسلوب التشاركي، بحيث يتأثر كل فرد منهم بما يحدث بالمؤسسة، ويمتلك فرصة للتأثير فيها وفي قراراتها. مبنى الهيئة الذي حصل على جوائز معمارية عدة يمثل أحد أهم العناصر المعمارية المميزة على مستوى مدينة الرياض وقد روعي فيه الجانب البيئي، وتوظيف العناصر الطبيعية مثل الإضاءة الطبيعية والبعد البصري والشفافية في العناصر الداخلية وتوزيع الفراغات المكتبية، حيث اتسم بالبساطة والمعيارية في تصميمه الداخلي ومحتويات التأثيث التي تؤكد على الأصالة بعيداً عن مظاهر البذخ، في نهج مماثل لكثير من مقرات المنظمات العالمية العملاقة، فمكتب الرئيس مثلاً لا يختلف كثيراً في مساحته وتصميمه عن مكاتب المسئولين الآخرين في الهيئة، بل إن قطع الأثاث الموجودة بداخلة هي الأبسط والأقل تكلفة وربما الأقدم بقدم المبنى نفسه، يأتي ذلك تعبير عن القيمة الحقيقية لفريق العمل والتي تكمن بما يقدمه من منتج وإضافة حقيقية للتنمية لا بما يحيط به من عناصر مكانية. مع صباح كل يوم يصل إلى بريدك رسالة فحواها (رئيس الهيئة في خدمتكم) لتبدأ يومك العملي دون عذر لأي عائق أو تحد قد يحول بينك وبين أداء مهامك المناطة بك، يشعرك بأن ثمة رئيس - بمرتبة وزير- في خدمتك، يضع كل إمكاناته وقدراته وعلاقاته الشخصية ومكانته الاجتماعية في خدمة المؤسسة التي تعمل بها، يغرس بداخلك ثقة كبيرة أنك وفريق عملك لديكم القدرة على إنجاز كل ما تخططون له، لا يفصل وصولك إلى رئيس المنظمة سوى بريد اليكتروني فقط، ليصلك الرد في أقل من خمس دقائق، عملية إدارية ربما تحتاج إلى أشهر وسط بيئات عمل تقليدية أخرى، كل هذا يحدث على مدار اليوم سواء في أيام عمل أو إجازة رسمية، الأهم أن تكون على قدر من الثقة ومستوى من المسئولية. تمثل التعاملات الإلكترونية في الهيئة أساساً لكل التدفقات المتبادلة بين قطاعات الهيئة وإداراتها المختلفة، بشكل ساهم في سهولة الإجراءات واختزالها وإيجاد منصات لإتاحة المعلومات والمحتوى المعرفي، وأتاحت لمسئولي الهيئة الفرصة لإنجاز مهامهم ومشاركة بيئة العمل الداخلية باستخدام الأجهزة الإليكترونية وعقد الاجتماعات عن بعد من أي مكان في العالم. كما أن الماكينة الإعلامية للهيئة تمثل علامة فارقة في مسيرة الإعلام السعودي الحكومي، لقد تفوقت في كثير من الأحيان على مؤسسات إعلامية تفوقها في القدرات والإمكانات، وتولت هذه الماكينة دوراً ريادياً فاعلاً في نقل رسالة الهيئة إلى المجتمع المحلي والإقليمي والعالمي وساهمت بشكل رئيس في تقديم الهيئة بصورة احترافية غير مسبوقة جعلت من تلك المجتمعات شريكاً في دائرة العمل والتطوير. الموارد البشرية في الهيئة تدار باحترافية عالية تمنحك مساحة كبيرة للتفرغ لأداء مهامك المناطة بك وتعزز البناء المؤسسي القادر على تمكين كل العمليات الإدارية لإنجاز أهدف المؤسسة، في محاولة جادة لبناء الطاقة الإنسانية داخل كل فرد من أفرادها، وربما تكتشف أن تقييم أدائك الوظيفي لن يعتمد فقط على مساهمتك في الإنتاج الداخلي فحسب، بل بما قدمته من عمل وخدمة ودعم للشركاء من القطاعات الأخرى. هناك إيمان كبير جداً داخل الهيئة بأنه لا عمل احترافي ممنهج دون إشراك الآخرين وتحفيزهم للعمل المشترك، هي سياسة إدارية فاعلة لاستدراك حقبة طويلة عانت فيها القطاعات التنموية المختلفة من ضعف في تنسيق المخرجات على مستوى التخطيط والتنفيذ والإشراف، حيث إن العمل من خلال الشراكة الوثيقة مع رواد صناعة السياحة والشركاء لإيجاد وتهيئة مناخ ملائم تحقق من خلاله درجة عالية من الاكتفاء الذاتي يبرز محوراً رئيسا في إعلان الهيئة عن رؤيتها ومهامها ورسالتها. لن تستغرب أبداً في اجتماعات الشركاء أن يتردد على مسامعك مفردات يوجهها رئيس الهيئة شخصياً إلى أمراء المناطق والوزراء وأمناء المدن والمحافظين مثل «نعمل تحت مظلتكم» أو «بما توجهون به» أو «إذا أمرتم» وغيرها، في رسالة أن هذه الهيئة تعمل بشراكة مع الآخرين من أجل الوطن فحسب دون النظر إلى أي اعتبارات إدارية أخرى، إنه نتاج للقيم والأخلاقيات التي بنيت عليها فلسفة العلاقة مع شركاء الهيئة بلا استثناء. في الاجتماع الأسبوعي للهيئة سيكون أمامك مواجهة مباشرة مع صانعي القرار والمدراء التنفيذيين، فهو فرصة دورية لمعرفتك بكل ما يدور داخل تلك المؤسسة، ومراجعة خطط العمل، ومشاركتك في التغيير، وعليك أيضاً أن تكون مستعداً لتقييم عملك أمامهم ومناقشة أداء إدارتك التي تشرف عليها. وفي مستوى آخر هناك اجتماع دوري شامل بحضور الرئيس يمثل برلمانا داخلياً تصاغ فيه كل القرارات على المستوى الاستراتيجي ويمرر من خلاله كل مشروع قرار لدراسته وإجازته قبل دخوله في مرحلة الاعتماد النهائي. كما أن اللقاء السنوي لمسئولي الهيئة لم يعد لقاء اجتماعيا فحسب؛ بل تحول إلى يوم يجسد معادلة «أين كنا» و»أين نحن» و «إلى أين ذاهبون»، وفي هذا اللقاء نقد ذاتي للمؤسسة ربما لا يمكن مشاهدته في مكان آخر. العضو الجديد في الهيئة لن يحتاج سوى ليوم واحد ليشعر بأنه عنصر أساسي في منظومة العمل تلك وفردا من هذه الأسرة الكبيرة، الجميع سوف يرحب به ويسانده ويعمل معه، ويقدم له كل المساعدة التي يحتاجها، هناك فهم واضح للأدوار والحقوق والمسئوليات بشكل ساهم في إيجاد بيئة عمل مثالية قادرة على التغيير رغم محدودية الإمكانات والموارد المالية المتاحة، قد تستغرب أن ميزانية الهيئة قد لا تعادل ميزانية إدارة إقليمية واحدة، مقارنة بمسئولياتها على المستوى الوطني، رغم ذلك استطاعت أن تقدم نموذجاً فريداً في إدارة المحتوى المالي وتحقيق المنفعة القصوى من البنود المتاحة والتأدية عليها بما يلبي متطلبات مشاريعها وبما يحفظ المال العام. القطاعات التنفيذية في الهيئة تعمل بجهد جماعي منسق ورتم متسارع جداً، وبأهداف مشتركة تراعي القواعد والإجراءات والسياسات الموجهة لتنفيذ القرارات وفق المبادئ والأنظمة المتبعة، ويمكن القول أنه فريق عمل موحد لكنه متعدد الحقول والاختصاصات حيث تتولى فروع الهيئة في المناطق التمثيل الإقليمي لقطاعات الهيئة في إطار من التمكين واللامركزية على مستوى مناطق المملكة. داخل هيئة السياحة هناك صورة مثالية وراقية لمشاركة المرأة بشكل فاعل في سوق العمل ضمن إطار متزن من الخصوصية الاجتماعية، فهي باتت تقدم عملاً احترافياً من خلال تسنمها مناصب قيادية ومهام ذات تقنية عالية، استطاعت أن تثبت من خلالها أن المرأة السعودية تمتلك المهنية والخبرة والكفاءة الكافية لقيادة التغيير والتطوير متى ما أتيحت لها الفرصة ووجدت البيئة المناسبة. الأجمل من هذا كله أن المحيط العملي الداخلي هو مزيج من الخبرات الأكاديمية والتنفيذية وذوي تجارب رائدة في القطاعين الحكومي والخاص واستشاريين وخبراء في مجالات متنوعة، حيث يشكل هذا المزيج حقل نوعي لصناعة المحتوى العلمي والعملي كأهم المتطلبات الرئيسة لإنجاز المهام المناطة بالهيئة، كما أنه فرصة كبيرة لكل الأجيال المنضمة حديثا لمنظومة العمل للاحتكاك بهم والتعلم منهم ونقل خبراتهم ومعرفتهم، إنه بمثابة مسار تدريبي مستمر على رأس العمل لمواجهة التحديات التي تعيشها الهيئة وخاضت معها معركة من أجل التغيير والتطوير، حيث يأتي التحدي الأبرز في إحداث التحول في ثقافة الوعي بأن السياحة تمثل قطاعاً تنموياً اقتصادياً رئيساً في الناتج المحلي للدولة، وأن ذلك يتطلب جهوداً فاعلة من المجتمع المحلي ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص، إذ لا يمكن أن تنشأ صناعة السياحة في بلد ما دون أن يكون هناك جهوداً مشتركة تتجاوز العمل بمبدأ المبادرة إلى المسئولية. تركيز الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على الاستثمار في الإنسان كان منعطفاً في القدرة على التنبؤ بما يحتاجه بناء المستقبل، الأمر الذي قاد إلى صناعة الطاقة الإنسانية على مستوى بيئتها الداخلية من جانب، وعلى مستوى البيئة الخارجية من جانب آخر، كان ذلك نتيجة جهد مضن وكبير بذل طوال السنوات الماضية. ربما هناك من يستطيع قراءة هذا الإنجاز وربما آخر لم يتمكن من قراءته حتى الآن، الأهم أن الوطن وأجياله القادمة هم من سيجني ثمار ذلك، والتاريخ سيكون شاهدا على أرض الواقع. أخيراً فإن الدافع الرئيس لكتابة هذه السطور هو «الانتماء» الذي نتج عن «طاقة إنسانية» يعتز بها كاتبها، ويأمل أن يكون ضمن من قيل عنهم «وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون، مرَّ وهذا الأثرْ». المهندس/ بدر ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن