إشارة إلى ما تناوله الكاتب الأستاذ (فهد بن جليد) في العدد رقم 15636 الصادر يوم الثلاثاء الموافق 21 يوليو- تموز 2015م، بعنوان: (تحرش جماعي).. تحدث في ثنايا مقالته الاجتماعية عن مقطع التحرش الجماعي المتداول -مؤخراً- على مواقع التواصل الاجتماعي.. مشيراً إلى أن حوادث التحرش في السابق كانت (فردية) لتأخذ في واقعنا المعاصر ومع المتغيرات الثقافية والتحولات الاجتماعية شكلاً أو نمطاً (جماعياً)، كما ظهر في المقطع المتداول قبل أيام في محافظة جدة.. مطالباً بعلاج قانوني رادع ونظام حازم قبل أن تتحول هذه القضية إلى ظاهرة يصعب علاجها وضبط توازنها في مجتمعنا الفتي. وتعليقاً على هذه القضية المجتمعية الخطيرة أقول ومن نافلة القول: إن ظاهرة التحرش بالفتيات كغيرها من الظواهر الاجتماعية التي تشتكي من أفاتها المجتمعات البشرية كافة قديماً وحديثاً، ولكن تختلف معدلاتها ونسبة أرقامها طبقاً للوعي المجتمعي والعمق الحضاري والبعد الثقافي للمجتمع، ولذلك يصنف «علم اجتماع العنف».. ظاهرة التحرش بالنساء بأنه عنف جنسي واجتماعي ونفسي.. وهو في مفهومه السوسيولوجي عبارة عن سلوك ذكوري يأخذ أشكالاً مختلفة، فهناك التحرش الجنسي بالكلام والتعليقات الجنسية المشينة والنكت البذيئة والمحادثات الهاتفية والأحاديث الغرامية، والرسائل عبر الهاتف المحمول وعبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعية، وهناك التحرش بالنظرات الرخيصة، والإيماءات والتلميحات الجسدية. وأما (النمط الأخطر) فهو التحرش الجنسي بالسلوك المادي والجسدي بداية باللمس والتحسس وانتهاء المشهد بالاعتداء كما حصل في حادثة التحرش بالفتيات في جدة مؤخراً من ثلة من الشباب المراهقين!. وفي دراسة اجتماعية تناولت ظاهرة التحرش الجنسي كشفت معطياتها العلمية إن أكثر الأشخاص الذين يقومون بجريمة التحرش هم من فئة المراهقين، وأكثر الفترات التي تزيد فيها مشاكل التحرش.. هي خلال العطل والإجازات وتتزايد بشكل ملحوظ في الأماكن المزدحمة وبالذات في الأسواق.. ولذلك سيبقى التحرش الجنسي وأنماطه من أقبح ألوان الأذى للمرأة، وأبشع صور الظلم لإنسانيتها، وأقذر الممارسات اللأخلاقية، ولاشك إن حالات الانفلات الأخلاقي للمتحرشين بالفتيات كقضية خطيرة في مجتمعنا الفتي لها عدة أسباب وعوامل تؤدي إلى انتشار مثل هذه الأحداث والمشاهد الخارجة عن قواعد الضبط الاجتماعي والقيمي والديني.. فقد تدخل فيها (العوامل الاجتماعية).. مثل غياب دور التربية الأسرية الواعية للأبناء وظهور حالات العنف والتفكك الأسري التي تنعكس على التنشئة التربوية والنفسية والعقلية والاجتماعية غير السوية للأطفال، إلى جانب دور رفقاء السوء في تعزيز السلوك الانحرافي بالذات أولئك الشباب المراهقين الذين يعانون من الفراغ العاطفي والملل والإحباط، وضياع المستقبل، أو ممن يتعاطعون المخدرات ولديهم طاقة لم توجه في المسار السليم، فتوظف هذه الطاقة في ممارسات وتصرفات عشوائية للتسلية والترويح وتفريغ شحنة الإحباط والبحث عن المتعة الجنسية في قالب التحرش بالضحايا..!! يحكمهم وكما أشار عالم الاجتماع الشهير (أميل دوركايم) عبر نظريته السوسيولوجية «السلوك الجمعي العقلي»، بمعنى أن بعض أرباب السلوك الإجرامي ينحرفون بفكر وثقافة (ميكانيكية) منصهرة في عقل جمعي واحد تدفعهم لإشباع فراغهم العاطفي من جهة، والانتقام من واقعهم الاغترابي في المجتمع من جهة أخرى، كما تلعب (العوامل النفسية) دوراً بنيوياً في انتشار حالات التحرش الجنسي، وطبقاً لعلم النفس الاجتماعي.. إن المتحرش يعاني من خلل وظيفي في تنشئته النفسية والعاطفية والعقلية، حيث تعتبر بعض الإمراض السيكولوجية المختلفة من أكثر العوامل ارتباطا بجريمة التحرش.. ومنها إمراض الفصام، واضطرابات الشخصية، والتغيرات المرضية وإدمان الكحول والمخدرات. وفي أدبيات ونظريات علم النفس.. قدم أبرز روادها العالم «أبراهام ماسلوا» نظريته الشهيرة في الدافعية الإنسانية التي تحرك السلوك وتشكّله، وسميت ب(بهرم الحاجات) فصاغ في قاعدته الاحتياجات الأساسية أو البيولوجية وهي الطعام والشراب والمسكن والجنس ويعلوها الاحتياج للأمن ويعلوه الاحتياج للحب ثم التقدير الاجتماعي وتحقيق الذات.. وإذا فقد الإنسان أحد هذه الحاجات أو بعضها فإنه يسعى لإشباعها من نفس نوع الحاجات الروحية، وبالتالي ربما يلجأ إلى ممارسة التحرش والعنف والانغماس في الجنس أو المخدرات والاعتداءات في محاولة منه (انوّميا) سد فجوة الاحتياج المفقود، كما أن (العوامل الثقافية) وتحدياتها التكنولوجية، وظهور شبكات التواصل الاجتماعية بإيجابياتها وسلبياتها، وانتشار الفضائيات والمواد التلفازية الإباحية اللأخلاقية.. من العوامل التي تساهم في انتشار آفة التحرش المرضية.. وفي هذا السياق تشير إحدى الدراسات العلمية المتخصصة إلى ارتباط مشاهده الأفلام الإباحية بأنواعها المختلفة بارتفاع احتمالات الانجراف لسلوك التحرش والعنف والاعتداءات ضد المرأة بشكل عام، مع عدم الإغفال عن أهم الأسباب المتمثلة في ضعف النظام وغياب القانون الذي يعاقب أنواع التحرش بالسجن والغرامات المالية.. ربما يزيد من حالات الانجراف وراء اتباع الشهوات والانفلات الأخلاقي، وبالتالي اتساع دائرة التجاوزات السلوكية اللامعيارية، وهنا استشهد بتجربة الإمارات النموذجية في مكافحة مرض التحرش وضبط توازنه، حيث سجلت تراجعاً في انخفاض نسبة ومعدلات التحرش الجنسي.. والسبب قوة جهاز المناعة الاجتماعي (عقوبات القانون)، ومعروف أن عقوبة التحرش بالفتيات في الإمارات.. سجن ستة أشهر وغرامة عشرة آلاف درهم.. والعقوبة الثالثة.. التشهير بالمتحرشين..!!. ولأن قضية «التحرش الجنسي» في مجتمعنا الفتي لم تصل -ولله الحمد- حد الظاهرة، ولكن من الأهمية بمكان الاعتراف بوجودها وخطورة تنامي هذه السلوكيات المناهضة للقيم الدينية والمعايير الاجتماعية الأصيلة في خضم غياب العقاب الصارم والنظام الرادع.. والاعتراف نصف الحل كما يقول رائد علم الإدارة الفرنسي الشهير هنري فايول..! والنصف الآخر (الإسراع) في إقرار نظام التحرش الذي مازال داخل قبة الشورى ينتظر صدوره وإعلان ظهوره، ليشرع بهيبته القانونية.. في معاقبة مرتكبيه وحماية الإعراض.. بالسجن والغرامة والتشهير لمن يمتهن هذه الممارسات السلبية والتجاوزات غير الأخلاقية، مع ضرورة رفع سقف (الوعي) في التربية الأسرية والتنشئة السليمة للأبناء.. وتنوير المجتمع.. بخطورة وآثار وتداعيات هذه السلوكيات المشينة ومثالبها.. على البناء الاجتماعي ووظائفه المختلفة.. وهي لاجرم تتطلب تفعيل دور المؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية والتعليمية والتربوية، للنهوض بقالب التوعية المجتمعية، وتنمية اتجاهاتها الحضارية والأخلاقية والقيّمية.