تملك الأوروبيون رغبة جامحة في تتويج تكاملهم الاقتصادي بعملة موحدة، ورغم أن الكثيرين يلقون باللوم على اليونان وغيرها من البلدان التي تعاني اقتصاداتها ضمن منطقة اليورو، إلا أن هناك عوامل ضعف في هيكلية العملة الأوروبية الموحدة تجعلها بشكل مستمر عرضة لعدم استقرار ومكلفة اقتصادياً للدول الأعضاء كونها وحدة نقدية غير مكتملة التحضير. ويمكن إجمال أهم مصادر عدم الاستقرار في العملة الأوروبية الموحدة في التالية: 1- أن الدول التي تعاني اقتصاداتها من أداء ضعيف تسببت عضويتها في منطقة اليورو في حرمانها من استخدام سياسات أسعار الصرف لدعم اقتصاداتها، فلو بقيت هذه الدول محتفظة بعملاتها الوطنية فإن ما تواجهه من صعوبات مالية ستنعكس بالضرورة في انخفاض في قيمة عملاتها يجعل صادرتها أكثر تنافسية ما يساعدها على الخروج من أزمتها بسرعة وسهولة أكبر، كما أن انخفاض عملاتها الوطنية يقلل من القيمة الحقيقية لإنفاقها الحكومي ودينها العام ما يجعلها قادرة على تحقيق توازن في موازين مدفوعاتها الداخلية بأقل ضرر ممكن على اقتصاداتها. 2- يتسبب ما تعانيه الدول الضعيفة ضمن منطقة العملة الموحدة من صعوبات أو ما ترتكبه من أخطاء في إدارة اقتصاداتها في ضغوط كبيرة على العملة الموحدة تضطر معه الدول الغنية للتدخل بقوة لدعم الاقتصادات الضعيفة، ما يمثل عبء مالي هائل على اقتصاداتها وقد لا تجد تلك الحكومات دعماً شعبياً كافيا لمثل هذه السياسات مستقبلا، خاصة إذا استمرت المشكلات تنتقل من دولة لأخرى بحيث قد تصل الدول الغنية إلى قناعة بأنها تتحمل أعباء قد لا تكون مستعدة أو قادرة على تحملها فتنهار العملة الموحدة. 3- إن المعايير التي وضعت لضمان استقرار العملة الأوروبية الموحدة كنسب عجز الميزانية ومعدلات التضخم ونحوها لم تكن كافية لضمان عدم حدوث تجاوزات في المالية العامة وبكل تأكيد لا تضمن عدم حدوث تجاوزات في النظام البنكي في دول الاتحاد النقدي، وبالتالي كان لا بد أن يكون هناك تنسيق أقوى وأكثر صرامة للسياسات المالية قبل إطلاق العملة الموحدة. 4- إن الاشتراطات التي وضعت على الدول التي أقر خطط إنقاذ لها، كاليونان مثلا، والتي من بينها اتخاذ إجراءات تقشفية صارمة بهدف تخفيض عجز ميزانياتها ودينها العام تتسبب في انكماش اقتصاداتها بصورة تقلل من حجم الإيرادات الحكومية ما يجعلها مضطرة لاتخاذ إجراءات حتى أكثر حدة للحد من عجز ميزانياتها ما يدخلها في دوامة من التراجعات في أداء اقتصاداتها تجعل من الصعب على هذه الاقتصادات الخروج من أزمتها لفترة طويلة. 5- إن مكاسب الدول الأعضاء من العملة الموحدة غير متوازنة، فالدول التي كان أداء اقتصادها القوي سيتسبب في رفع كبير في قيمة عملاتها الوطنية ما يؤثر سلباً على تنافسية صادراتها كألمانيا وهولندا مثلاً وجدت أن انضمامها لمنطقة اليورو ضمن لها عدم حدوث ذلك، بينما الدول التي كانت اقتصاداتها بحاجة إلى عملة أضعف حتى تزيد من تنافسيتها فإن انضمامها لليورو منع حدوث ذلك فارتفعت تكلفة الإنتاج فيها بصورة جعلتها تخسر جزءا كبيرا من أسواقها الخارجية كما هو الحال في اليونان وإيطاليا. والحقيقة أن أكبر عامل يعمل لصالح اليورو هو ضخامة الثمن الذي يمكن أن يدفعه اقتصاد أي دولة تخرج من مظلته، فكون معظم مديونيتها باليورو يعني أنها في حال انسحابها من العملة الموحدة وعودتها إلى عملاتها الوطنية السابقة سترتفع مديونيتها بشكل هائل نتيجة تراجع عملتها الوطنية أمام اليورو ما سيضطرها إلى إعلان إفلاسها وعجزها عن سداد دينها وسيكون نظامها البنكي عرضة للانهيار التام، وهو ثمن باهظ جدا لا تستطيع أي دولة مهما ساءت أوضاعها الاقتصادية بسبب عضويتها في منطقة اليورو أن تكون مستعدة لدفعه. والسؤال هو إلى متى ستبقى دول منطقة اليورو مستعدة لدفع ثمن باهظ في مستوى أداء اقتصاداتها ومستوى معيشة سكانها فقط لكي تحافظ على هذا الحلم الأوروبي الذي كان يبدو جميلا؟!.