مشكلتنا دوماً بالتصنيفات المسبقة التي نلقيها هنا وهناك.. فعندما يُذكر لنا كتابٌ أو طرحٌ أو رأيٌ فإننا ننظر لخلفيةِ المؤلف ونسألُ عن صاحبِ الرأيِّ كي نُشكّل رأياً مُسبقاً عنه قبل أن نسمع رأيه أو نقرأَ كتابه فنعتقدُ قبل أن نستدلَّ!وهذه الرغبة وحُب التصنيف شوّه كثيراً من عُلُومنا ومعارفنا وأنقصَ مداركنا وأَفقدنا التواصل وزاد في الفجوةِ بيننا.. فالتقييم يتحول للمؤلِّف وخلفيتهِ وليس للكتاب [المؤلَّف]،والرأيُّ الجيد لأجل صاحبه يُنسف والعكس بالعكس.. حاولت من خلال هذا الاستهلال أن أتجرد أثناء قراءتي لكتاب (ما بعد الصحوة) للدكتور العزيز عبد الله الغذامي الذي تربطني به علاقة قديمة بدأت منذ تقاربي معه أثناء وبعد زمن الصراع عليه أيام الحداثة وحظينا بجلساتٍ معه توضَّحت لنا فيها كثيرٌ من الرؤى والتصورات ولازالت الصلة ممتدة رغم تباعدها بتواصل الحب والتفاهم وليس التباعد أو التباغض.. !! ودائماً ما يرد في ذهني عند ذكر الغذامي رأيُ شيخنا ابن عثيمين رحمه الله الذي سمعته منه بعد التجاوز عليه واتهامه وقت صراع الحداثة،وهو الذي عرفه ودرّسه بالمعهد ثم يذكر رحمه الله أنه لا ينساه ممسكاً بيد والده الكفيف محمد الغذامي رحمه الله دوماً للصلاة أو كمؤذن بعض الأحيان في مسجد المسوكف في أكثر الصلوات فكان ذلك عند الشيخ سبباً داعياً لعدم النيل منه أو العداء بلا وجه حق وثناءً عليه!!إضافةً إلى أنه قد جمعنا في تلك المرحلة بالدكتور عبد الله لقاءاتٍ ثقافية كانت مجالاً رحباً للنقاش وفهم بعضنا البعض.. لقاءاتٌ يعقدها هنا وهناك على قلّتها مؤخراً بعد آفة عُزلة تويتر التي أسرتْه عن اللقاءات المباشرة لكنها أوصلته بالجماهير المتابعة.. فحوَّلوا لقاءاته العامة إلى فضاء التواصل الذي ناسبه فيه مع ضبط وقته كما يريد.. ومن حسنات تويتر أيضاًَ أنه أظهر د/عبد الله وعرَّفه لعموم الناس المتلقية محلياً أكثر من قبل وربما هي من مميزات عصر السرعة والتواصل بالارتباط الإلكتروني أكثر من المعرفي أو القرائي أو حتى التأليف.. تمهيد.. يظل د/الغذامي رقماً صعباً من العسيرِ فهمهُ ضمن الأدلجة والتصنيف الممارس الذي يُسقطه البعضُ ضدّه توجساً وخِلافاً غير مبرّر وهو ممن يسهل فهمهُ بِمبدأ الثقافة وفهم ما يكتبه مع استصحابِ حُسن الظن وترك التخويف غير المبرر والواجب علينا جميعاً إغلاب النية الحسنة التي يحملها الكثير حتى ولو لم يظهروها في حديثهم أو كتاباتهم وعدم محاكمتهم بتقديم الظنون السيئة دون النظر لما يحيط بالفكرة.. فهكذا يأمرنا ديننا ومن أراد الفائدة والعلم فليتجرّد عند بحثه ودراسته.. ومن الطبيعي أنك قد تختلف في البداية مع الغذامي رأياً ورؤيةً وهذه حال وجهات النظر بين الناس {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الآية.. ولكن في النهاية سيجمعكما بالتأكيد ملتقىً واحد تحوطه المصلحة والمنفعة وحبُّ الفائدة العلمية والبحث عن الحقِ وليس لرغبةِ الاختلافِ والتخاصمِ هكذا عرفت الغذامي وقرأتُهُ منذ عام 1408ه حين نقل لجامعتنا بالرياض قادماً من جدة وكنت طالباً بجامعة الملك سعود وقتها ثم عبر لقاءاتٍ بسيطةٍ شرفت بها بمنزلي أو غيره من الأمكنة،تعمقت أثناء موضوع الحداثة مع ثلّةٍ مُحبةٍ من مثقفي عنيزة.. أدركنا جميعاً وقتها أن تلك الهجمة لم تكن مبرّرة بطريقتها أو مع ما صاحبها من اتهامٍ ومبالغة وكان بالإمكان فهم الحداثة ومعالجة ما يرونه منها بالحوار النخبوي معها وتطويرها وإصلاح خللها بدلاً من إشغال الجميع فيها وإقحام علماء الشرع الأجلاء بها.. والذي حصل أن تغيّرت كثيرٌ من رؤاهم بعد مدة من الزمن.. رغم أني هنا لا أبرئ بعضَ رموز الحداثة أيضاً من نصوصٍ موهمةٍ وأطروحاتٍ غامضةٍ ساهمت في تفاقم المشكلة أو عدم إيضاح موقفهم مما يطرح ولكن العدل مطلوب!!فإن الاستثارة غير المبررة لتمسك الناس والتجاوز على ثوابت دينهم عبر عددٍ من الظواهر الإعلامية والمقالية التي تمرُّ بنا بين الفينة والأخرى مما يستجلب تغريباً أو تعليماً مخالفاً أو إعلاماً مُنحلاًّ أو إقراراً للباطل.. كانت تجعل الخائفين على الدين وتميّزه يعلو صوتهم في توجّسٍ دائمٍ من كلِّ غريبٍ أو جديدٍ وعادةُ التخوّف بنا طبيعة موجودة خاصة في نجد!!ولذلك فإن هذا الجوّ بعوالقهِ ومشاكلهِ لا يمكن حين وصفه والحديث عن مرحلته تجاوز المؤثرات عليه لاسيما المتسارعة منها وإن عدم استصحاب تلك المؤثرات عند الحديث عن زمن الصحوة الذي ولاشك تأثر بكل ذلك إيجاباً وسلباً.. وتوجيه اللوم لجهةٍ دون أخرى يؤدي لنقصٍ في التصور.. مع الكتاب.. بعد هذا التمهيد الذي أوضحت فيه أهمية الغذامي وطرحه ومرحلته وهي مقدمة لاشك لن تفي الموضوع حقه باختصارها لكنني بعد قراءتي لكتاب د/ عبد الله [ما بعد الصحوة]حاولت أن أضع نقاطاً اعتبرها كتعليقات أثارتها عندي رؤية المؤلف وطرحه وفقه الله.. ولا أزعم أنني بهذه النقاط المختصرة شملت آراء الكتاب ورؤية الكاتب بقدر ما حاولت أن أقف عند ما استرعى انتباهي للتعليق عليه حسب رؤيتي القاصرة،ورؤيتي هذه لن تخلو من العاطفة التي أحملها ولاشك.. ولكن حسبي منها أن الكتاب حرّك لدي شجوناً وشؤوناً وأحداثاً ومتغيرات مؤثرة تتعلق بالمرحلة.. حاولت أن أجمعها بنقاطي المكتوبة وقد جعلتها على شكل نقاط يسيرة طلباً للإيجاز وإن كان بعضها يحتاج للتفصيل أكثر،ولكن حسبي منها أن نوعية القارئين هنا يفهمون ما عنيته بها.. دون التطويل عليهم بتفاصيلها لاسيما وأن الكتاب حظي بتعليقاتٍ أخرى أجود ولا شك قد تُشكّل معها مجتمعةً نظرةً شاملة.. وهذه النقاط أردت بها إنصاف تلك المرحلة.. ولم أُخْلِها من النقد والمحاسبة.. ولعلي أكون قد وُفّقت.. ولاشك أن الأهداف التي تجمعنا أكثر بكثير من هوة الخلاف اليسيرة لمن ينظر إليها شرعاً وعقلاً ومصلحة!!وإن كان الموضوع برمته قد أثار عندي شوق الكتابة عن مرحلة الصحوة من بدايتها العلمية حسب رؤيتي ولعلها ترى النور قريباً بإذن الله.. ونقاطي المتعلقة بالكتاب هي : 1- الصحوة كتاريخ وحركة تصحيحية لا بد أن تتكرر بالأمة وهي تحتاجها وتلجأ إليها بعد الضعف الزمني الذي تركن إليه وهذا الأصل ورد في الحديث النبوي الصحيح[أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدّد أو[يصلح] لهذه الأمة دينها]فهي إذن أصل لا يمكن مقارنتها بغيرها من ظواهر الاهتمام والانتماء كالقومية والشيوعية أو التطرف الجهادي.. وغيرها مما يأتي كظواهر سرعان ما تختفي.. كما شبهها به الدكتور كما أنه اختصر الصحوة بعشر سنوات ولم يبين بشكلٍ أوضح سبب اختصاره للمدة واختياره للفترة،وكذلك تجاوز بدون الإرهاصات قبلها والمؤثرات أثناءها وبعدها مما جعلها مرحلة ليست تشبه غيرها من الظواهر التي مرت وهي تشبه الموضات لكن الصحوة ترتبط بالتأكيد بالدين وعاطفته وفطرته بالبشر ولذلك رأيناها زخماً طال العالم الإسلامي كله عبر التاريخ يختفي فترة ثم يعود بقوة بخلاف غيرها من الظواهر التي تأتي وربما لا تتكرر أبداً والتاريخ شاهد.. 2- لا يمكن اختصار مرحلة الصحوة وما بعدها بالسلبيات الممارسة لأن رموزاً كبرى ومراجع وأطياف بها كانت تمارسها بإيجابية وكسبت قبولَ الناس كلّهم المسؤول والمثقف بل والمختلف معهم وغيرها من الإيجابيات وهي أعطت صورة رائعة بتجديد الطرح الشرعي والواقعي الذي لقي قبولاً في العالم كلّه.. وقدّموا صورة حضاريّة عن الإسلام.. .................................................................................. يتبع - عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي