أطلت صور البراءة وأطفالنا هناك يرقدون على الأسرّة البيضاء، فقد كنت أزورهم بين فينة وأخرى، وألملم في عناقهم ولقائهم بعضاً من المودة ومشاعر غامرة وحباً للحياة.. حملت بعض الهدايا وكثيراً من الفأل إليهم، ونظرت للسماء وهي تبتهج بقدوم السنة الجديدة وأنا أبعد اليأس عني؛ لكي لا يظهر على ملامحي وأنا أزور حبيباتي الثلاث (حنان، بيان وخلود) صاحبات الإقامة الطويلة بالمستشفى. فمن لهن بعد الله إلا مواقف ينتظرونها منا نحن الأسوياء.. فخطر ببالي وأنا أركب السيارة متجهة لمستشفى الملك خالد بمحافظة الخرج أن هناك من زرع أملاً بحياتي حينما قال سوف نهتم بهؤلاء الأطفال، وهناك من زارهم وجلس معهم واقترب منهم ودوّن الكثير عنهم من المشاهد والمواقف في بحوثهم، وحينما انتهت مهمتهم أداروا الأكتاف عنهم (سامحهم الله). فلن أكون بموقف هؤلاء؛ سأسعى ما حييت إلى أن أقدم ما بوسعي؛ حتى أرسم الابتسامة على محياهم. الطفلة حنان تعيش ما يقارب اثنتي عشرة سنة بالعناية المركزة؛ فعيناها اعتادتا على رؤية اللون الأبيض، وأنفها اعتاد على رائحة المعقمات، وهي تعاني من فشل بالجهاز التنفسي. اقتربت منها، وعانقتها، وسألتها عن حالها وعن ماذا كانت تفعل. أجابتني وهي تبتسم بأنها بخير ولله الحمد!! نعم تقول إنها بخير.. وهي على هذه الحال إيماناً بريئاً وجميلاً بأن الله لن ينساها.. كنت أقلب في قنوات التلفزيون؛ لعلي أجد برنامجاً للأطفال يناسبها، لكن جودة الصورة غير مثالية؛ لذلك أقفلته ويداي تداعبان أطراف أصابعها.. قلت لها: حنان، ما هي أمنياتك؟ (ردت ببراءة: إيش أمنية؟). فأجبتها: أعني ماذا تتمنين؟.. (وش تبين يكون عندك, وش ودك تسوين؟).. ضحكت وقالت: ودي أتعلم.. سكتت لبرهة من الوقت. وقلت لها: لقد نسيت.. فسوف أجلب لكِ هديتك يا حنان، فانتظريني قليلاً. وبعدها انتقلت لقسم الأطفال لرؤية الأختين خلود وبيان اللتين اعتادت أيديهما على ندوب الإبر؛ فهما تعانيان من صعوبة امتصاص الغذاء. فكانت خلود تلعب مع خادمتها، وبيان لم تكن في مزاج جيد. اقتربت من خلود، وطبعت على جبينها قبلة صغيرة، وقلت لها: كيف حالك؟ فقالت: أنا بخير (وأنت كويس؟)، فعرفت أن كلامها أصبح مكسراً نظراً لجلوسها مع الخادمة والممرضات داخل هذا المستشفى مدة طويلة. قالت لي بيان: (أنا زعلان).. قلت بتعجب: لما أنت زعلانة يا بيان؟! قالت: (علشان أبي اطلع برا مستشفى). ولم أستطع الإجابة، فما وجدت غير الكلمات المعتادة. فاقتربت منها قائلة بيأس: إن شاء الله تطلعين يا بيان، بس لا تزعلين. قالت خلود مشجعة لبيان: قومي شوفي «فاتن» معها بالونات.. إلا أن بيان لم تعطِ أختها أي اهتمام؛ فظلت صامتة حتى قبلتهما وأنا أنصرف. ودعتهما وخرجت وبيني وبين نفسي أقول: ألا يحق لهذه الفئة المنسية أن تتعلم؟! ألا يحق لهم معرفة حتى الحروف الهجائية، وقراءة القرآن الكريم؟! ألا يحق لهم أن توفر لهم إدارة المستشفى غرفة تحتوي على ألعاب وألوان، وبعض القصص تكون متنفساً لهم؟! انهالت علي أسئلة كثيرة عن سبل تقديم المزيد من الخدمات لهم ورعايتهم في هذه الظروف التي هم في أمسّ الحاجة لنا بسببها، مع أهمية أن يكون لوزارات الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية دور أكبر وأهم خدمة لهؤلاء المرضى، شفاهم الله، وألبسهم ثوب الصحة والعافية.