في المنطقة الخليجية أهم ما حدث تاريخياً بعد الحرب العالمية هو استقلال دول المنطقة من التبعية السياسية للغرب وإعادة ترتيب أمورها الداخلية, من حيث توضيح انتمائها سياسياً وتأمين ملكية مواردها الاقتصادية مثل النفط ومنافذ التجارة البحرية إما بالتأميم كما فعلت إيران, أو بالشراء كما فعلت المملكة.. وتكون نخبة من التكنوقراط القياديين رواداً للتغير الاجتماعي. وأبو هاشم وأبوه قبله من طبقة التكنوقراط المجددين. في دول المنطقة الأكبر والأقدم مثل الهندوإيران وتركيا ومصر والعراق واليمن انتهى سقوط أغلال الاستعمار بتكون السلطات المركزية التي سرعان ما تفتتت هي الأخرى, وتأسست «جمهوريات» ظلت ملتبسة الهوية حيث النظام ديموقراطي بالاسم ولكنه محافظ متشدد ومركزي السلطة، والسلطة فيه متوارثة. ثم فوق ذلك لاحقاً استطاعت الحركات المؤدلجة دينياً أو فكرياً أن ترسخ انتقال السلطة إلى حكومات أحزاب متشددة تحكم الشعب. تجربة السعودية تستحق الدراسة بحيادية؛ طيب الله ثرى المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود, الذي ضمن اتفاقية التنقيب عن النفط شرط قيام الشركات الأمريكية بتدريب وتوظيف المواطنين السعوديين و تعليم أبنائهم. هاشم من جيل ثمار برنامج الابتعاث، وعايش في حياته الغضة كل ضغوط المجتمع الباحث عن هوية تتعايش فيها متطلبات الغد وأعراف الأمس. قضى طفولته وصباه في الظهران في أجواء عالم التكنوقراط السعوديين, النخبة التي ينتمي إليها أبوه وأمه, وتفتح وعيه في ظلال جامعة الملك فهد للبترول والمعادن, وحضارية تخطيط مبانيها ومنشآتها, وجوار أرامكو السعودية أكبر شركة لصناعة الطاقة في العالم. وتعلم أن يظل قارئاً لكل مفيد علمي غربي مطلعاً على آخر ما يستجد, وأن يحافظ على صلواته وانتمائه للوطن حتى أثناء الدراسة في الغرب. هاشم وأبوه وآلاف المواطنين السعوديين حظيظون بنعمة بعد نظر القيادة الحكيمة, وريادة المنطقة الشرقية في مشاريع التحضر والتحديث علمياً وتقنياً, فكلاهما من مبتعثي أرامكو للدراسة في الخارج عادا مؤهلين بما يحتاجه بناء وطن حديث. لكن في حين عاد أبوه كأحد النخبة التكنوقراط المحتفى بهم رسمياً ومجتمعياً, عاد هاشم ليجد الغلو قد أخل بتوازن المجتمع وخلق أوضاعاً طاردة للتميز الفردي و قلص فرص الريادة الفاعلة. أستطيع أن أقول إن ليس كل ذلك الجيل أو هذا عايش الفرص الذهبية.. ولكن كل الجيل التبس يمؤثرات الطفرة الاقتصادية في السبعينيات, والصحوة في الثمانينيات, وتصاعد الغلو في التسعينيات. وإذا كانت الطفرة مرتبطة بتاريخ الخليج بالذات, فالصحوة كانت منبع عواصف الجوار كله عربياً. فمع انتشار التعليم الحديث للطبقة الشعبية الكادحة بدأ بعض المفكرين يتساءل عن الهوية الحقيقية الأصدق, وحاول بعض المثقفين الوصول إلى الجواب بربط الفكر الغربي بالأصول الإسلامية أو بالنظريات الاقتصادية المستجدة، فنشأت حركات مسيسة إما دنيوياً كالشيوعية, أو دينياً كالإخوان المسلمين, وثورة الخميني. وتحولت إلى صراعات بين الحلول المقترحة المتناقضة التوجه بين الدعوة للانتماء القومي العروبي.. أو الانتماء الإسلامي. وبقي أيضا ثقل الانتماء القبلي السائد بأعرافه فوق هذا وذاك. وربما بعد فشل مشروع الوحدة العربية في الستينيات لتأسيسه على شعارات لم تستوعب الشعوب صعوبة تطبيقها, وبعد تمدد إسرائيل المستمر استيطانياً وعسكرياً, وحروب الخليج الأولى والثانية والباردة، وسقوط صدام وانكشاف هشاشة النداءات لربيع عربي ستر طموحات حزبية مترصدة, وتساقط أنظمة الجوار كقطع الدومينو ليسقط الجوار كله في فوضى الدموية والعنف وفكر القاعدة التي ولدت شيطان داعش محطم الحضارات. يحق لنا الآن أن نتأمل تجربة نصف القرن الماضي من وجهة نظر جيل جديد يطالب بحقه في أوطان مستقرة بقوة عسكرية واقتصادية وتوازن وعي مجتمعي. فملايين الشباب - مثل هاشم- في رقعة عربية ممتدة يرون تشرذم أحلامهم في أنانية من لا يحلم إلا بسلطة دائمة تتحكم في مصير العباد.