يُفاجأ بعض حديثي التقاعد بأن تجربة التقاعد جميلة، ولكنها ليست مريحة كما كانوا يتوقعون ويأملون؛ فالمشاغل تلاحقهم، وتحرمهم من الاستمتاع بأوقاتٍ غير مُقيَّدة بالالتزامات الصارمة. هؤلاء كانوا يُمَنُّون أنفسهم قبل التقاعد بأوقات سعيدة خالصة مُصفَّاة، يقضونها في السفر والقراءة، والجلوس مع أفراد العائلة ومع الأصدقاء، وممارسة الرياضة ومختلف الهوايات، والاهتمام بصحتهم، والاطلاع على مستجدات الدنيا من خلال النت والفضائيات والصحف.. وغير ذلك من الخيارات الجميلة التي تسعد الإنسان، وتعوضه عن الركض الطويل في دروب الوظيفة التي امتصت أيام العمر. لكنهم ما إن يبدؤوا فترة التقاعد حتى يجدوا أنفسهم وقد سقطوا مرة أخرى في فخ الالتزامات التي تتراكم شيئاً فشيئاً حتى تصبح عبئاً يسرق أوقاتهم الجميلة! ففي زمننا الحاضر لا مجال للحديث عن فراغ يجلب الكآبة للإنسان المتقاعد؛ لأنه سوف يجد ما يشغل به وقته أياً كانت اهتماماته، بل إن العكس ربما يكون هو الصحيح؛ فسوف يجد المتقاعد شُحاً في الوقت للاستمتاع بما يرغب فيه حقاً، وليس ما كان يجب عليه أداؤه عندما كان موظفاً يؤدي واجبات ثقيلة في كثير من الأحيان، ويتجرعها لمجرد ضرورة كسب لقمة العيش! أحد المتقاعدين السعداء الساخرين امتنع عن كتابة كلمة «متقاعد» في خانة «الوظيفة» التي كان عليه أن يقوم بتعبئتها في بطاقة المعلومات، قبل أن ينطلق في رحلة بحرية على متن سفينة طالما تمنى القيام بها أيام كآبات وضغوط العمل. لقد كتب، بدلاً من كلمة «متقاعد»، عبارة تعريفية كاملة هي: «إنسان سعيد يستلم معاشاً تقاعدياً». إن الذين تصيبهم الكآبة عندما يتقاعدون لا يدركون الآفاق الواسعة التي تنفتح أمامهم بمجرد التخلص من ربق الوظيفة النمطية التي تستهلك عمر الإنسان، وتمتص أيامه. ربما هُم لا يخططون بشكل جيد لمرحلة التقاعد، ولا يُعِدون لها العدة فيُفاجَؤون بتغير إيقاع الحياة، فيرتبكون، وربما يحزنون ويكتئبون! لكن الأهم من ذلك هو أن معاشات بعض المتقاعدين لا تفي باحتياجاتهم المعيشية، وبخاصة عندما تكون هي مصدرهم الوحيد للدخل، وتكون ظروفهم الصحية ليست على ما يرام، ويعولون أسرة كبيرة العدد. كيف نصنع من مرحلة التقاعد فترة عمرية ذهبية وجميلة؟ بالإضافة إلى التخطيط من قِبَل المتقاعد نفسه، هناك أدوار لا بد أن تقوم بها كلٌّ من المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ووزارة الشؤون الاجتماعية؛ فهي مسؤولة عن توفير حماية كافية للإنسان المتقاعد الذي تخذله الظروف؛ فتتحول مرحلة تقاعده من فترة سعادة موعودة ومستحقة إلى فترة معاناة أليمة. عندما يتحقق ذلك سيكون كل الموظفين السابقين أشخاصاً سعداء، يتلقون معاشات تقاعدية ومستحقات ضمانيَّة، وليسوا أشخاصاً متقاعدين؛ فالحياة أجمل وأثرى من أن يتقاعد الإنسان أمام سحرها وروعتها.