يعيش الوطن فرحة تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، الملك السابع للدولة السعودية الثالثة، الذي ما أن تولى مقاليد حكم البلاد حتى أمر -حفظه الله- بجملة من الأوامر الملكية التي أعاد بها هيكلة الدولة بما يتناسب مع الظروف الراهنة وتطلعات الشعب، لتتشكل بها ملامح الدولة السعودية الرابعة. والملك سلمان ليس جديدا على تحمل أمانة المسؤولية، فقد أدار باقتدار ما يمكن تسميته بالحكم المحلي إبان توليه إمارة الرياض، فكانت العاصمة القلب النابض للوطن، ومصنع الكثير من القرارات والسياسات المفصلية. وكل من عرف الملك سلمان يعلم إلمامه وشغفه بالتاريخ عامة وتاريخ الجزيرة العربية خاصة، فهو ملك المؤرخين، ومؤرخ الملوك، ولذا لم يكن من قبيل الصدفة اختياره -حفظه الله- لمزرعته الخاصة في الدرعية ليقيم فيها مبنى للقصر التاريخي العامر الذي عرف باسم (العوجا)، ليقضي فيه بعض الوقت الخاص للراحة والاستقبال، فالدرعية كما هو معروف نواة التأسيس وقلعة الأمجاد وعاصمة أجداده الأئمة من آل سعود، وكيانهم الشامخ الدولة السعودية الأولى، ومنها انطلقت الدعوة السلفية المباركة لتعم بنورها أرجاء الجزيرة العربية. واحتضان الدرعية لابنها البار زادها شرفا، وبزت به أقرانها من محافظات هذه البلاد الطاهرة، بعد أن كان يحتضنها في قلبه ويرعى مشاريعها وتطويرها بإشراف مباشر منه، وخاصة حي الطريف في الدرعية التاريخية الذي تم ضمه لقائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو. وقد اختار - حفظه الله- موقع قصر العوجا بعناية، فجاء على ضفاف وادي حنيفة ملاصقا لحي «الطريف» من جهة الشمال الغربي، الحي الذي عاش فيه أجداده -رحمهم الله- وكأني به يستلهم منهم الأصالة والقوة وحماية الدين ونشره. وسمى خادم الحرمين الشريفين قصره الذي بناه في مزرعته وفق نمطٍ نجدي مميز ب«العوجا» التي هي نخوة لآل سعود ثم لأهل الدرعية والعارض جميعاً، ثم امتدت لتشمل جميع نواحي الدولة السعودية، فالعوجا ترتبط بالمكان وهي الدرعية، وبالدعوة التي على أساسها قامت الدولة السعودية. وقيل في تفسير معنى العوجا، إنها كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» شعار الملة الحنيفية، التي مالت عن جميع طرق الشرك، إلى الطريق الذي رضيه الله - جلَّ وعلا-، فهي الملة العوجاء. قال ابن منظور في تعليل «الملة العوجاء» ما نصه: «ومنه الحديث: حتى تقيم به الملة العوجاء، يعني ملة إبراهيم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام التي غيّرتها العرب عن استقامتها» (1). ولا يعارض ذلك أن العوجا صفة لازمت الدرعية، كونها تقع في منطقة معوجَّة من وادي حنيفة، فالملاحظ أن الدرعية أول ابتدائها تمتد من المليبيد جنوبا إلى غصيبة شمالا، وهذه المنطقة تتصف بوجود ثلاثة اعوجاجات شديدة في وادي حنيفة، أولاها اعوجاج الوادي إلى جهة الشرق عند منطقة قصر الملك سلمان حاليا، ثم يعوج أخرى ناحية الجنوب بعد أن يتجاوز حي الطريف، ثم يعوج ثالثة باتجاه الشرق عندما يصل لمنطقة المليبيد، فناسب أن تسمى هذه المنطقة «العوجا» وربما يكون السبب غير ذلك، وقد ذكرت تعليلات عدة لهذا المسمى(2). أما المزرعة التي بُني فيها قصر العوجا، فقد كان طرفها الشرقي في الأصل مزرعة تسمى «طعيسة» نسبة لرجل يقيم مع بني خالد يسمى «طعيس» وقد كان من أمر طعيس، أنه حينما انضم بنو خالد لأمير المنتفق -آنذاك- ثويني بن عبدالله الذي قد عزم على غزو الدرعية عام 1212ه وسار بجيشه من العراق مارا بالأحساء في طريقه للدرعية، هرب طعيس من بني خالد والتجأ إلى الدرعية، ثم عزم على الالتحاق بالجيش الذي سيره الإمام عبدالعزيز بن محمد لملاقاة ثويني بقيادة الأمير حسن بن مشاري(3). وقد احتال طعيس لاغتيال ثويني، فقصد معسكره في الشبيكة قرب الأحساء، وتنكر في هيئة بهلول وأخذ يتراقص بحربته أمام ثويني وهو ينشد: يا ثويني يا ولد عبدالله.. الموت حق والشهادة لله، حتى إذا ما اقترب من ثويني باغته بحربته وغرسها في صدره فخرجت من ظهره، وعلى الفور قتل الجنود طعيساً في مكانه، ودبت الهزيمة في قوات ثويني، وعاد جيشه إلى العراق، ولما وصل خبره للإمام عبدالعزيز بن محمد - رحمه الله- أوقف له هذه المزرعة آنفة الذكر وسميت منذ ذلك الحين «طعيسة». ويقف قصر «العوجا» بمزرعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- في الدرعية شامخا يطالع باعتزاز قصر «سلوى» في حي الطريف، وقيل إنه سمي بذلك على اسم زوجة الإمام سعود بن عبدالعزيز رحمه الله(4). إلا أنني لا أظن أن ذلك صحيحا، فلم تذكر المصادر النجدية أو الغربية المعاصرة له سبب التسمية، فاسم سلوى ليس من الأسماء التي تتسمى بها الإناث في نجد آنذاك! وربما كانت سلوى صفة لشعور من يسكن القصر الشامخ الجميل، فيجد فيه سلوى عن همومه. وقد كانت الجزيرة العربية من اليمن جنوباً، إلى الجزيرة العراقية شمالاً، ومن سواحل الخليج شرقاً، إلى سواحل البحر الأحمر غرباً، تدار من داخل قصر سلوى، وها هو خادم الحرمين يعيد سيرة أجداده ويستضيف بين حين وآخر في هذا القصر التاريخي العامر بمزرعته عدداً من الضيوف وقادة الدول ليطلعهم على بعض الملامح التاريخية المدونة والمصورة في هذا القصر، وليمارس عمله ملكاً من ذات المكان، فهي ليست إذن مصادفة! وتوشك أعمال التطوير والترميم الجارية الآن في حي الطريف والسهل أن تنتهي، لتفتتح قريبا -بإذن الله- وكنت قد اقترحت عام 1419ه إبان التجهيز للاحتفاء بمرور مئة عام على دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الرياض، أن يبنى معلم تذكاري في مدخل الدرعية الجنوبي في منطقة دوار العلم، عبارة عن مجسم كبير لقلم يتقاطع مع سيف، ليمثل لقاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع الإمام محمد بن سعود -رحمهما الله- وفي قاعدة المجسم يكتب «ميثاق الدرعية» الذي اتفق عليه الإمامان، وحيث إن هذا الاقتراح لم ير النور آنذاك، ربما لكوني قدمته متأخرا! فإني آمل من خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- إحياء هذا الاقتراح، والتوجيه بتنفيذه إن كان مناسبا. حفظ الله لنا ديننا ووطنا وولاة أمرنا، وجنبنا الفتن. ** ** ** (1) لسان العرب، ابن منظور، (332-2). (2) انظر كتاب «أهل العوجا» لمعالي مستشار خادم الحرمين الشريفين الدكتور فهد السماري. (3) ذكر ابن غنام الحادثة في تاريخه، وأكملت بقية القصة مما رواه لي والدي -رحمه الله- مما استفاض عند أهل الدرعية. (4) الدرعية والدولة السعودية الأولى، ويليام فيسي، ص 127. عبدالحكيم بن عبدالرحمن العواد - الدرعية