عندما حاول المتأسلمون السياسيون القفز إلى السلطة في الجزائر في الثمانينايت من القرن المنصرم، من خلال الانتخابات الديموقراطية، أعلنوا حينها أن الديموقراطية برمّتها، بما فيها الاحتكام إلى صناديق الانتخابات بين المتنافسين لا تجوز شرعاً. وأن انتهاجهم لها كان على سبيل الاضطرار، لذلك فالسُلّم الانتخابي الذي به سيصعدون إلى سدة السلطة سيمنعون إعادة استخدامه بمجرد أن يصلوا إليها؛ فمنازعة (الأمر أهله) التي تتكئ عليها فكرة الديموقراطية الغربية، وكذلك تداول السلطة بين فئات الشعب، هي في معاييرهم الفقهية ليست من تراث الإسلام؛ ولم يقرها أحد من فقهاء السلف، كما خطب بذلك حينها الشيخ «علي بلحاج» وهو واحد من كبار أساطينهم في الجزائر. عندها اضطر الجيش الجزائري إلى التدخل، وإلغاء الانتخابات، فتفجر آنذاك صراع دموي بين الجيش والمتأسلمين الجزائريين، امتد لأكثر من عقدين من الزمن، ونتج عنه الكثير من القتلى والجرحى والخسائر في الممتلكات، فضلاً عن الخسائر المتمثلة في تعطل مسيرة الجزائر التنموية، إذ أعاقتها هذه المواجهات والأحداث المتلاحقة عن كثير من المنجزات المدنية، وبناء الإنسان المتحضر؛ غير أن الجزائر (الدولة) نجت من أن تنتهي إلى ما انتهت إليه سوريا وليبيا اليوم، وكادت مصر هي الأخرى أن تصل إلى المصير نفسه، لولا تدخل الجيش المصري، وإنقاذ مصر الدولة من أن تقع في براثن هذه الجماعات الظلامية الانتهازية. وكان كثير من المثقفين يلومون الجيش الجزائري لإفشاله التجربة الديمقراطية الوليدة في الجزائر، والسبب- كما كانوا يقولون - عداء جنرالاته للإسلاميين. أما بعد الربيع العربي، وما تمخض عنه من أهوال ودمار، فليس لدي أدنى شك أن الأغلبية الساحقة من الجزائريين، وبالذات البسطاء ممن انخدعوا بخطابهم المتلبّس بالدين، وتكريس الهوية التاريخية للجزائر، حين رأوا بأعينهم ما يجري في جارتهم (ليبيا) من شلالات دموية فظيعة، ونزاعات فئوية طاحنة، ودولة فاشلة، وشعب مشرد، ومحن وقلاقل، لا تكاد تهدأ، إلا لتثور من جديد، ولا يبدو أن لها نهاية قريبة، سيدركون قيمة تدخل الجيش الجزائري آنذاك، ومنعه هؤلاء المتأسلمين الانتهازيين من الوصول إلى السلطة، لأن وصولهم كان حتماً سيُفجر حرباً أهلية دموية على غرار ما يجري في جارتهم ليبيا، وما يجري الآن في سوريا؛ فالدواعش - مثلاً - الذين أصبحوا اليوم مثل (الغول) الأسطوري الذي ما يحل في بلد إلا ويُحيل أرضها إلى دماء تتدفق وأكوام من الجماجم البشرية، لا يختلف إطلاقاً عن الغول الجزائري المتمثل في (الحركة الإسلامية للاتقاذ)، التي منعها الجيش الجزائري من الوصول إلى السلطة. إن تجربة (سوريا) في المشرق العربي، وتجربة (ليبيا) في المغرب العربي، وكذلك تجربة (العراق) الذي أرادته الجيوش الأمريكية واحة من واحات الديموقراطية كما كانوا يقولون، كل هذه التجارب المختلفة والمتنوعة، والفاشلة حتى الآن، تثبت أن الديموقراطية كوسيلة لترسيخ الأمن والاستقرار ورفاهية الشعوب والتوافق والعيش المشترك بين أفراد المجتمعات، إذا لم تبدأ من الفرد، وتوعيته، وتنمية الشعور بالأنا الفردي وتقديمه لمصلحته الذاتية، كأولوية لا تتجاوزها أولوية أخرى، بحيث تستحوذ على تفكيره وتوجهاته وقراراته، وتُخلِّصه من الشعور بالأنا الجَمعي الموروث، وما يطغى على إرثه الثقافي من انتماءات، أياً كان نوعها، فإن مصير الحلول الديموقراطية هي الفشل الذريع. وهذا في تقديري السبب الأول والرئيس لفشل الديموقراطيات العربية، ونجاحها في المجتمعات الأخرى. ويثبت صحة ما أقوله هنا، النجاح النسبي للتجربة الديموقراطية التونسية بعد الثورة، وفشل البقية؛ فالرئيس بور قيبة، مؤسس تونس الحديثة، عمل منذ الاستقلال عن فرنسا على الارتقاء بالمواطن التونسي، وتكريس إحساسه بالمدنية، فشكل ذلك فيما بعد أرضا خصبة وعجينة طيعة مكّنت من التعامل مع الصناديق الانتخابية أفضل من بقية العرب الآخرين؛ غير أن التجربة التونسية منقطعة النظير، هي هنا بمثابة الاستثناء العربي الذي يؤكد القاعدة ولا يُلغيها. إلى اللقاء