قتلى دول الحلفاء المنتصرين ومن معهم من دائرتهم -كدول المحيط الهادي-، في الحرب العالمية الثانية، من مدنيين وعسكريين -عموما- ستة أضعاف قتلى دول المحور المهزومة في الحرب ومن تورط معها من الدول. والسبب هو عدد القتلى المدنيين من جانب دول الحلفاء. فالضحايا المدنيون من النساء والأطفال والشيوخ في دائرة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب -، وأكثرهم من الروس ودول المحيط الهادي- يبلغ أكثر من خمسة عشر ضعف الضحايا المدنيين لدول المحور الخاسرة، والذي تسبب الروس في أكثرها. وفي هذه الإشارة كفاية على وحشية دول المحور، - وعلى وحشية الروس كذلك-. وعلى الرغم من قرب العهد، إلا أن معظم اليابانيين اليوم لا يدرون عن جرائم الحرب التي ارتكبتها اليابان في الحرب العالمية الثانية. فحال الياباني، كحال العربي والأفريقي والأوروبي والأمريكي. فقد تكتم الخطاب الرسمي والإعلامي والتعليمي الياباني عليها تكتما شديدا، فلا تذكر اليابان إلا قاذفات أمريكا وقنابلها النووية، فباستثناء الصين التي خسرت عشرين مليونا بسبب الغزو الياباني - نصفهم من المدنيين على أيدي القوات اليابانية -، فلا تكاد تجد ذكرا لدور الحرب اليابانية في هؤلاء القتلى إلا في الأفلام الوثائقية، والكتب التاريخية العلمية، فكأن العالم قد اتفق على مسح التاريخ الياباني خلال الحرب العالمية الثانية. بل حتى دول شعوب المحيط الهادي التي كانت ضحية القوات اليابانية، لا تتعدى مواقفها تجاه التاريخ الياباني المريع، إلا كتاريخ مُجرد منسي، ضمن كتب التاريخ العالمي. فما الذي دفع إعلام الشعوب لإظهار الجرائم النازية عن طريقة جامعاته ووسائل إعلامه، وعن طريق السياحة وبصناعة أو عرض الآلاف من الأفلام والمسلسلات التي تحكي الجرائم النازية بالتفصيل وبالإجمال، بينما غُيبت شعوب العالم عن تاريخ ما قامت به القوات اليابانية. أهم اليهود، فهم يخشون تشتت تعاطف العالم عنهم؟ ولا ينكر أحد أن لليهود دورا كبيرا في إظهار وتعظيم الجرائم النازية، التي قضت على أكثر من نصفهم، إلا أنهم أعجز مقدرة عن إخفاء القتلى على أيدي القوات اليابانية، بحجمها الكبير. وأمريكا اليوم تتحمل، كثيرا من لوم أبنائها فضلا عن لوم اليابانيين والعالم بأسره في تدميرها المدن اليابانية بالقاذفات الجوية ثم بالقنابل النووية التي ما أخضعت اليابان إلا بها. فلم لم تعمل أمريكا على إظهار مأساة القتلى على أيدي القوات اليابانية بدلا إخفائها، ليفهم أجيال العالم أي دور لعبه اليابانيون، كما فهموا أي دور لعبه الألمان. ولهذا فإني أعتقد أن طرفا من السبب هو أن الاتفاقية الأمريكيةاليابانية كانت أعمق وأبعد كثيرا مما ظهر منها، فما كان استسلام اليابان -في اعتقادي- إلا مجرد سيناريو متكرر لاستسلام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. بل إن تكرار هذا السيناريو هو آكد في حق اليابان من الألمان، نظرا لوحدة الشعب الياباني في تاريخه العرقي الممتد إلى ما قبل التاريخ، ولعمق ثقافته الحربية، ولوحدة الشعور الياباني في عدم الشعور بالخطأ والندم مما حصل في الحرب العالمية الثانية. ولتوفر الرغبة الشعبية اليابانية في الثأر وتطلعه للمحاولة مرة أخرى لتحقيق المجد الياباني الإمبراطوري العالمي. هذا الهاجس الخطير هو الذي جعل الأمريكيين يتنازلون بسهولة للروس عن نصف أوربا، رغم بداية ظهور الخطر الشيوعي حقيقة آنذاك. فلهذا قبل الأمريكيون بخسارة نصف أوربا للروس الشيوعيين، وغضوا الطرف عن جرائم الجيش الروسي في حق المدنيين الأوربيين من اغتصاب واسع ومتكرر للنساء والقتل والتمثيل بالسكان المدنيين، عند وبعد دخول الجيش الروسي المدن المهزومة التي انضمت لألمانيا بعد احتلال جيوش هتلر لها. فالمشكلة اليابانية تعود في أصول الثقافة اليابانية، فإن لم تُحل من جذورها، فإن الاستسلام الياباني ما هو إلا ولادة لمارد ياباني أعنف وأقوى وأشد ضراوة، تصغر أمامه نازية ألمانيا وتهون معه المشكلة الروسية. ولهذا فأعتقد أن الاتفاقية الأمريكية مع اليابان كانت تقتضي في أول شروط الاستقلال لليابان، مع مساعدتها للنهوض بعد الحرب بدلا من خنقها اقتصاديا والتضييق عليها، هو نزع الكراهية والعرقية والدموية من الثقافة اليابانية. وأعتقد أن اليابانيين اشترطوا على الأمريكيين فيما اشترطوه عليهم من أجل تحقيق ذلك، هو مساعدتهم في إخفاء تاريخ الحرب اليابانية، الذي سيتحول بلا شك تحت وطأة الهزيمة في عقول اليابانيين إلى مفاخر وأمجاد تقلق مهجع الياباني فيزداد ضراوة وعزما على إشعال الحرب من جديد. والثقافة اليابانية كانت تعتقد أن اليابانيين هم الناس، والعالم مخلوقات دونهم، وهي ثقافة عنيفة قوية في أصل جذورها، لا تهاب الموت مطلقا. فتغييب جانب السطوة والعنف من النفس اليابانية بمسح أي ذكر يُذكربه، مع استصحاب جانب الضعف من الهزيمة باسترجاع ذكرى القاذفات والقنابل النووية والموت الشامل للأطفال والنساء، يُلين خشونتها ويصقل قوتها لتتوجه للبناء وصناعة الحياة بدلا من الهدم وصناعة الموت، فذلك أنفع للثقافة اليابانية وأرحم بأبنائها. فالثقافة اليابانية دامت قرونا لانغلاقها على نفسها، فلما انفتحت على العالم فشلت فشلا ذريعا. فهكذا كان، والله أعلم، فتحول الياباني من محارب مرعب يدمر بلاده وبلاد غيره، إلى مُنتج مبدع يساهم في بناء الحضارة ويمثل قدوة إنسانية عالمية محبوبة داعية للسلام والمحبة. والعبرة أن كل ثقافة فيها عوامل بناء وعوامل هدم، فالعرقية كانت عامل الهدم في أوربا، فلهذا عمل الغرب جاهدا منذ الحرب العالمية الثانية على نزع فكرة التميز العرقي من جذورها. فالعرقية هي التي مزقته وسببت عليه الحروب الدموية العظمى. وتميز الرجل الأبيض كان عامل هدم في الثقافة الأمريكية، فعملوا على القضاء عليه حتى نصبوا أسود رئيسا عليهم. واليوم قد انفتح العالم على بعضه، فعوامل الهدم في ثقافة ما، إن تكن قد استخفت حينا من الزمن تحت غطاء الانعزالية، فاليوم ستُكشفها الانفتاحية الحتمية على العالم. وهذا لا يقدره إلا ذو نظر بعيد. والأمم التي تنظر بعين أجيالها هي الأمم التي تبني الإمبراطوريات الخالدة. فلنفترض صحة اعتقادي بأن تغير الثقافة اليابانية كان مُخططا له، فما حكم القارئ الكريم على لجوء اليابان إلى التنسيق مع الأمريكان خطة تهذيب الثقافة اليابانية، أيعد مؤامرة على اليابان أم أنها مشاركة في صناعة اليابان الحديثة.