وسط هذا الزحام الكثيف، والتجاذبات العديدة والمتنوعة ما بين التزامات عملية، وأخرى أُسرية أنت معي بكل خفقة من خفقات قلبك العليل، وأعضاء جسدك الطاهر الذي يئنُ كل عضو منها من الألم الجم الذي أقض مضجعك، وجعلك في صراع دائم مع الآلام والأمراض. ياجنان قلبي شفاك المولى، وأسبغ عليك عوافيه. يامن أول من نطقت باسمها «ماما». يا نبع الحنان، وهبة الرحمن. ياقطعة من قلب ينبض داخلي. يامن ربتني صغيراً، ورعتني حق الرعاية كبيراً. منذ أن أقعدك المرض مرة أخرى ليلة السابع من ذي القعدة لعام 1435 وأنا تائه في دنياي؛ لا ليلي ليل، ولا نهاري نهار، أهيم يمنة ويسرة فمرضك في مرحلته الثانية أصابني بمقتل، وجعلني أعيش من دون إحساس بالزمان والمكان، وأحدث فراغاً كبيراً في حياتي. في أواخر شهر شوال الماضي عدت من رحلة علمية من عاصمة العلم هلنسكي في فلندا وكنت أمني النفس بأن تُطوى لي الأرض في طريق عودتي لأسعد بمرآك بعد أن أخذت تتعافين شيئاً فشيئاً من مرضك الأول الذي أقعدك في المستشفى حبيسة السرير الأبيض قرابة الثمانية أشهر. ولكن ما إن وطأت قدماي أرض الوطن حتى عاودك المرض مرة أخرى أشدُ فتكاً من المرة الماضية. ذهبت لرؤيتك في المستشفى في ظهيرة يوم الخميس الثامن من ذي القعدة وكلي أمل أنها مجرد وعكة ستزول قريباً، وما أن وقعت عينايا عليك قابلتني بابتسامة الأم الحانية الفرحة بعودة ابنها من السفر على الرغم من أنك كنت تنازعين آلاماً جساماً لا تتحملها الجبال الراسية. آه يا أماه ..... كانت ابتسامتك للحظات أعادت لي الأمل، ولكن يا لسوء حظي العاثر غبت بعدها عن الوجود فلم أسعد باستعادة وعيك إلاّ بعد أسابيع ثلاثة تالية لابتسامتك تلك، وقد بدت وكأنها سنين ثلاث مضت أيامها، وأسابيعها، وشهورها ببطء جاثم لا يبدي حراكا. كنت أحضرُ إلى حيث تقيمين في العناية المركزة التي عرفتني أركانها وزواياها، وبدينا أنا وهي وكأننا صديقين لا يفترقان نعيش سوية يومياً الهم، والألم، والمرارة، والوحشة، والخوف، والرجاء وقد أحاطت بك من كل حدب وصوب أجهزة طبية لا تحصى تتدلى منها أسلاك بدت وكأنها غابة أغصان أشجارها كثيفة. وما أن أقف بجانب سريرك أشرع بمناجاتك: أماه أرجوك أجيبي ندائي فكم يؤلمني ويبكيني أن آراك من دون حراك واستجابة، وحين لا أجد جواباً تتساقط عندها دموعي واحدة تلو الأخرى حزناً على وضعك الصحي المتردي فأنت حاضرة بجسدك، مغيبة عن عالم الوعي نتيجة أمراض تكالبت عليك فلم يُبقي منها أيُ حراك واستجابة لأعضاء جسدك الطاهر التي انتزع المرض صحتها. يا الله ما أصعب هذا الوقت العصيب عليّ كون مناحيه مجهولة لا يمكن التنبؤ معها بحدث الغد. كل يوم وأنا في الطريق آتي إلى المستشفى لزيارتك أُمني النفس أن تُحدقي في عيني، وتتحدثي إليّ ولو بكلمات معدودة؛ فذلك كان يعادل كنوز الكون، ولكن الانتظار طال فتحول رجائي لخوف تملكني خشية قدومي من الغد وقد فارقت دنياي. استمر حالك الصحي هذا لأسابيع مرت من ثقل كاهلها وكأنها سنين. أفقت بعدها فاستبشرت خيراً فأخذت أُذيع ذلك الخبر المفرح في محيطي مبتهجاً فرحاً قائلا: أمي الغالية ما زال لوجودها حضور في دنياي فيا له من خبر وحدث يبعث على الفرح والسرور. مضى الحال على هذا المنوال قرابة الشهر ولم تتضح لي بعدُ صورة وضعك الصحي، أو أنني كنت أمني النفس بأن حالك آخذ في التحسن يوماً بعد آخر. وها هي الأيام تمضي فتزداد معها قتامة صورة وضعك الصحي، وحينها فقط بدأت أفيق على حقيقة أن مرضك هذه المرة أشد وطأة وضراوة، وبدأت أهيئ نفسي لفراق جنة وارفة الظلال بدا لي أن المرض العضال آخذ من دون استئذان في كتابة آخر ورقات عمرها. توالت الأيام رتيبة كئيبة إذ لم يكن من جديد يذكر في حالك دخلت معها حال المتحفز، المترقب، الخائف، العاجز عن فعل شيء لها سوى الإلحاح بالدعاء، والتصدق. جئت لزيارتها يوماً في هذه الأثناء الصعبة المرة كالعلقم، وبمجرد أن رأتني بادرتني بالقول: «خالد ياوليدي أنا تعبت، وما عاد أتحمل» ألجمني قولها الصمت، وشل حراكي، ولم أعرف بماذا يمكن أن أخفف عليها وأواسيها بالفعل والقول، وبعد استجماع قواي بعد برهة من الزمن قصيرة ألهمني أرحم الراحمين بالقول: تجملي بالصبر، واحتسبي فالبارئ اختار لك خيراً مباركا، وطهور بمشيئة الواحد الأحد، ولعل ما أصابك كفارة من الذنوب. وبعدما غالبها النوم قبلت رأسها، ويديها، ودعوت لها بما قدرني الله تعالى عليه ثم غادرت غرفتها. كان ذلك موقفاً قاسياً اعتصرني فيه الألم، والأسى الكبير لحالها، ومن مبلغ ذلك وشدته لم أدري كيف قادتني سيارتي إلى منزلي إذ لم تفارقني كلماتها وأناتها طوال الطريق. ولم يستمر الوضع على هذه الحال، وإنما بدأت ملامح فصل جديد بدأت للتو كتابة سطوره الأولى وكأنه قد كُتب لي ضرب موعد مع جرح ألم جديد أقاسمها إياه؛ إذ بدأت والدتي تمضي معظم يومها نائمة فكنت أعتقد أن ذلك إما بسبب شدة الألم، أو أن ذلك يعود لنوعية الأدوية التي كانت تتعاطها، أو ربما هروب من درجة اليأس الذي وصلت إليه نتيجة الأمراض التي انتزعت صحتها. استمر الحال على ذلك أياماً تبلورت معها مؤشرات أولية تنبئ بأنها قد دخلت فيما يبدو بغيبوبة لها الآن ما يقارب الثلاثة أسابيع. وخلالها لم يقدم أطباؤها جواباً حاسماً عن ماهية حالها غير انتظار لطف ورحمة رب العالمين. فالطب بإمكاناته وقف عاجزاً عن تقديم تفسير يُشخص الحالة بدقة، أو يُقدم خطة علاجية تُعيدها لوضع صحي مستقر نوعاً ما. ذهبت لزيارتها يوم الأحد الأول من شهر صفر لعام 1436 ممنياً النفس بحمل أمل وخبر سار أحمله معي في رحلتي العملية للهند، ولكنني وجدت وضعها الصحي كما هو لم يطرأ فيه أي جديد. وها آنذا أكتب آخر سطور هذه المقالة من مطار انديرا غاندي الدولي بنيودلهي مساء يوم الخميس الخامس من شهر صفر في انتظار موعد إقلاع الطائرة التي سوف تقلني إلى حيث ترقد منبع الرحمة والحنان في مستشفى الملك فهد للحرس الوطني داعياً المولى القدير بأن يمن على غاليتي التي عانت الأمرين من أمراض متوالية قاسية بشفاء لا يغادر سقماً، وراحة ما بعدها مشقة، وأن يعوضها الباري عن كل ألم عانته. حبيبتي ونبضي كم أفتقد بحجم الكون حضورك اللافت في التفاصيل الصغيرة اليومية لحياتي. آه يا أمي فمرضك أرهقني كثيراً... أتعبني... أجهدني... أثقل قلبي بالألم، بل دعيني أقول إن خناجر الألم أحس بها تطعن أعمق نقطة تخالجني.