انطرفت عينه اليسرى؛ فمال عن الشمس قبل أن تحتقن فينتشر الاحمرار. قال بحدة بينما يتفحص بصعوبة فتق الشبكة الآخذ في الاتساع: أخَذَته. أخبرته عنها. حذرته ولم يلقِ بالاً، أنكرها طوال الوقت، وليته لم يفعل. غيمة كبيرة غطت السماء، أظنها أمطرت لأسبوع كامل، أحدثت النوارس ضوضاء عالية، وكنا نحسبها القيامة، كل الأشياء خرجت عن طورها حتى أن الأشجار التهمت أعشاش العصافير ببيضها والأفراخ.. أتصدقين؟! أومأت بنعم، فاسترسل: منذ يومها لا شيء في الحياة يسُّر، لم أصطد سمكة أنهت عشاءها الأخير. لا الشمس شمس، ولا القمر قمر. أذهب البركة بذهابه.. قدر الخطأ يكون العقاب. لكن ألم يرتد ليعقوب بصره حين اشتم ريح يوسف؟ رفعت كتفي في خجل، لم أستطع أن أسأله إن كان وجودي هنا محصورًا في هدف واحد، أن أومئ بنعم. تأملت حزن روحه وحركة أصابعه العصبية بينما تمرر كرة الغزل من بين فتحات النسيج. لم يكن علي غير أن أصدق ثم أومئ بنعم. لم أسمع عن جد يكذب، وحتى حين تغضب جدتنا لأمر ما لم يكن ليفعل لتفادي لكمة بكتفه أو لكزة بصدره أو حتى لخوفه من عبوسها المسائي ليومين.. كانت ليلة عاصفة مشحونة بالدخان، لم نعرف له سبباً، لم ننوِ الخروج، لكن شيئاً خفياً كان يدور في مكان ما بهذه الطريقة ليجعله الضحية. عاودتني الهواجس بينما أرقب أمه تصف الدلاء تحت فتحات السقف التي تسرب الماء. تذكرت أشياء كثيرة كنت نسيتها بالخارج، وسبقني للباب. ما الذي دفعه للذهاب غير صوتها. سرقته النداهة، بددت يقظته حين نادته بأمسية ذات شتاء.. ألم أخبرك؟! أومأت بنعم.. كانت ساعة نحس، خرجت أفتش عنه، استنجدت برجل الفنار ولم يسمع. ثمة ما يمنعني من الذهاب لأبعد من تلك المسافة. عدت أجرجر أذيال خيبتي، لم يبد لي الشارع قاتماً مسكوناً بالخوف كما بهذه الليلة. لم تكن القرية أبداً نائحة تزف أولادها للبحر ثم توليهم ظهرها.. هززت رأسي ليكمل فغمغم بحزن: تراني سأراه ثانية؟! كان من العبث أن أومئ بنعم لكني قلت: ربما ذات يوم.. زفر بضيق وقال: (الموانئ خداعة والمرافئ بياعة) أومأت بنعم.. هل كان يعرف حقاً؟ ربما لم أعطه مفتاح البيت، لم يخبرني بموعد العودة فأنتظره، أو لأترك له القارب، ربما يتوسد العشب على الحافة، وربما تروقه شمس الشتاء.. أترينها؟ أومأت بنعم تسألني يومياً عنه أومأت بنعم.