تأليف الدكتور الناقد الشاعر: زكي مبارك (1892 - 1952) كتاب المجلة العربية 203 عدد 442* قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى - الدكتور زكي مبارك أديب وصحفي وشاعر وأستاذ أكاديمي فذ مرموق، وفي هذا الكتاب عزيزي القارئ الذي تقع قراءته بين ناظريك، يصف الدكتور زكي مبارك السمات الأدبية، والرسمات الشعرية، ولشعراء ثلاثة لا رابع لهم جمعتهم سمة الحب، وغريزة العشق، وهم العباس بن الأحنف وفوز، وجميل بن معمر وبثينة وكثير بن عبدالرحمن وعزة، هؤلاء الشعراء الغزليون الثلاثة الحب عندهم عاطفة وجدانية أسها وذروة سنامها هي الحب العذري العفيف، فعشقهم دستور وجداني له وجاهة وقدسية تقوم على احترام الحب، وتبرز كرامة وعذوبة العشق العذري الشفاف الذي لا تشوبه شوائب تكسر عفته، أو تقلل من عذريته: لقد خفت أن يغتالني الموت بغتة وفي النفس حاجات إليك كما هيا وإني لتثنيني الحفيظة كلما لقيتك يوماً أن أبثك مابيا يقول الدكتور زكي مبارك في مقدمته النابهة للكتاب كلمة جميلة عذبة جاء فيها: (أولئك رجال تعلقوا بالحب، فعظموه ومجدوه، واستهانوا من أجله بما يقاسي عُباد الجمال من مصاعب وأهوال، لقد طاب لهم.. الحب، وأن يجعلوه نصيبهم من المجد، وكان ذلك لأنهم نشؤوا في أيام كان أهلها أصحاء العقول والقلوب فأفصحوا عن سرائرهم بتصريح الواثق الآمن، لا بتلميح المريب الهيوب) وفي المقدمة سر بديع يبثه لنا الدكتور زكي مبارك عن قدسية الحب العذري عند العرب الأوائل فيقول: (الحق أن العرب في شباب زمانهم كانوا يرون للحب قدسية، وهذا هو السر في التقليد الذي كان يوجب بدء القصائد بالنسيب، وما كان ذلك التقليد إلا استجابة لدعوة لا توجّه إلا إلى أهل الصدق، وهي الدعوة إلى الشعور بما في الوجود من أطايب الجمال). ألا ليت شعري هل أبيتين ليلة بوادي القرى؟ إني إذن لسعيد وهل ألقين فرداً بثينة مرة تجود لنا من ودها ونجود؟ علقت الهوى منها وليداً فلم يزل إلى اليوم ينمي حبها ويزيد وأفنيت عمري بانتظاري وعدها وأبليت فيها الدهر وهو جديد فلا أنا مردود بما جئت طالباً ولا حبها فيما يبيد يبيد ويتكون الكتاب من مقدمة وستة فصول جاءت على النظم التالي: الأول: الحب العذري، الثاني، قصة جميل في الشعر والعشق، الثالث: شاعرية كثير عزة، الرابع: الموازنة بين كثير وجميل، الخامس: شاعر العفاف والكتمان، السادس: الموازنة بين العشاق الثلاثة والقادح لزناد الفكرة هو الأستاذ الجليل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حين دعا المؤلف إلى إنشاء بحثين عن كثير عزة، وجميل بثينة، فوقع هذا الاقتراح في قلب المؤلف ثم ارتأى أن يضم إلى هذين الشاعرين شاعراً ثالثاً وهو العباس بن الأحنف لأن هؤلاء الثلاثة يشتركون معاً في وجدانية الحب، وفي وجدانية العشق. لها في سواد القلب بالحب ميعة هي الموت أو كادت على الموت تشرف وما ذكرتك النفس يابثن مرة من الدهر إلا كادت النفس تتلف وإلا اعترتني زفرة واستكانة وجادلها سجل من الدمع يذرف وما استطرفت عيني حديثاً لخلة أسر به إلا حديثك أطرف والمؤلف يطرح سؤالاً جوهرياً على قراء كتابه، وقد عكس القاعدة فالمعتاد أن يطرح القارئ السؤال ومن ثمة يجيب المؤلف، والسؤال الذي طرحه الدكتور زكي مبارك هو: ما الذي سنراه في الصحائف المقبلات؟ وما التقدير الذي بُني عليه هذا الكتاب؟ ويجيب عن سؤاله بنفسه حين يقول: (الغاية الأساسية هي تصوير طوائف من المعاني كان لها تأثير شديد في الحياة الإسلامية، تأثير وصل بها إلى الآفاق الصوفية وجعلها من الأناشيد التي يطرب لها)، ثم يشير إلى الجهد الحثيث الذي بذله وهو يؤلف هذا الكتاب فهذا العمل ليس محصلة أيام وأسابيع، بل هو محصول سنين طويلة، حيث عُني المؤلف بجمع ما بقي من آثار هؤلاء الشعراء فيقول: (شغلتني هذه الصحائف أربع سنين أعني أنها شغلت أوقات الصفاء من تلك السنين، فما كتبت حرفاً من حروفها إلا في لحظات بينها وبين أرواح أولئك الشعراء صلات): ولست براضٍ من خليل بنائل قليل ولا راض له بقليل وليس خليلي بالملول ولا الذي إذا غبت عنه باعني بخليل ولكن خليلي من يديم وصاله ويحفظ سري عند كل دخيل ومن نافلة القول الإشارة إلى وجهة نظر الدكتور والناقد البصير زكي مبارك إلى الحب فهو يرى أن للحب نظائر في الآداب جمة، إلا أنه يأتي في الأدب العربي أوضح وأظهر، وذلك لأن العربي ينشأ مفطوراً على الإيثار. هذا وقد خطا الدكتور والناقد الخبير زكي مبارك خطوة مهمة في النقد العربي الحديث وهو أسلوب الموازنة بين الشعراء ففي هذا الكتاب الشيق وازن بين شعراء ثلاثة عمالقة، واهتم اهتماماً كبيراً بالرؤية النفسية الذاتية الجمالية، وهي تختلف بين شاعر وآخر، بل هي على الأصح تختلف عند الشاعر نفسه حينما ينتقل من موجة شعورية إحساسية إلى أخرى، فكان حريصاً كل الحرص على تناول البناء الفني ونقده أدبياً وعلمياً عند كلٍ من جميل بثينة وكثير عزة والأحنف وفوز، هذا البناء الفني تناوله لفظاً ومعنى شكلاً ومضموناً وعرج على إبداع الشاعر وتوقد قريحته الشعرية، ونفسه الشاعرية، وكان يعلق على النصوص الشعرية التي تفوه بها شعراؤه الثلاثة بنفس أدبي نقدي لماح وفي الوقت نفسه دقيق أيضاً معرجاً على الصورة الشعرية الفنية، والتي تختلف بين قصيدة وأخرى بل بين بيت شعري وصنوه، وقد أبدع وتفرد وأجاد وأفاد، والكتاب ماتع جداً ولا يختلف في هذه الحقيقة اثنان حتى لو كان للواحد منهما نفس شعري زهيد، ويرى الكتاب أن الفنية الشعرية لقصائد هؤلاء الشعراء تكمن في فطرة الأحنف وعذوبة الرقة لدى كثير عزة، والإغراب اللغوي الذي يتمظهر عند شاعرية جميل بثينة، ومن أبرز السمات التي عرج عليها الدكتور زكي مبارك سمة الوفاء فكل واحدٍ من هؤلاء الشعراء سموأل زمانه لم يكن جميل يدق قلبه ويرف لغير بثينة ويشاركه في الإحساس نفسه العباس مع فوز وكثير مع عزة. أفيقي من عتابك في أناس شهدتِ الحظ من قلبي وغابوا يظن الناس بي وبهم وأنتم لكم صفو المودة واللباب وأخيراً: فالكتاب له طعم متفرد، وهو يحوي إريحيات ذوقية قوية. ** ** ** عنوان التواصل: ص. ب 54753 - الرياض 11524 فاكس: 2177739 [email protected] * للمجلة العربية الرائدة كل التقدير، وجزيل الثناء على إمتاع قرائها بمثل هذه النفائس والفرائد.