يجلس أمام التلفاز.. الشاشة تنقل إليه صحن الطواف، والكعبة تشمخ في صمتها، وعمقها، ووقارها.. وشذى كلامها العميق المتسلل للكيان.. والطائفون في اتجاه واحد يتحركون..، دائبين بلا كلل، أفواجاً أفواجا.. والمسجد الحرام يستقطبهم ويستوعبهم.. هم بلاشك يتعبدون ذاكرين الله كثيراً، ألسنتهم تلهج بالدعاء إلى أن يتصاعد النداء للصلاة.. فترى ما يتغير في المشهد.. ومهابة الصف في سجودههم، وقيامهم على قبلة قلب واحد، وكعبة واحدة.. وهو يتابع بعمق.. وبهجة، وادِّكار.. واعتبار.. كأنه هناك داخل شاشة التلفاز قد اندمج بين الطائفين، ومن ثم المصلين.. وما تلبث أن تعود الحركة نحو الطواف فيعود للتمتمة: «لله كم في مكة من أنفاس..؟ كم عدد هؤلاء البشر الذين يجتمعون في مكان واحد، يؤدون معا شعيرة واحدة، على قدم وساق معاً.. وتتسع دهشته: «كيف بالله تستوعب هذه المكة كل هؤلاء..؟!، بكل حاجة لهم، فجميعهم يأكلون، يشربون، ينامون، يتنقلون، يغتسلون، يتوضأون، وجميعهم يركبون..، يترجلون يسكنون..، يعالجون، وهم سعداء لا ترى في وجوههم سوى نظرة الفرح، والامتنان للوصول إلى هنا.. وواصل وهو في دهشته: «بنيتي، ما هذه القدرة الاستيعابية التي تملكها مكة لمواجهة كل هذا، وما هذا اليسر في تقديم ما يسد حاجات كل هؤلاء في آن..؟» في وقت تندر فيه حوادث لا تذكر، فكل أمرمقضي لهذا العدد الفائق حدا يتخطى المليون ومئات الألوف، وأكثر بلا قصور، وإن حدث قصور فلا يذكر..؟ ثم تلفت وهو في جلسته وتساءل: «يا سبحانك يا رب كيف مكنت مكة من هذا، وأوفيت لأب الأنبياء إبراهيم عليه السلام بما دعاك، إذ لم تجعل هذا الوادي الذي من غير زرع عند بيتك العتيق آهلا بخيرات سألكَها من أفئدة تهوي إليها فقط، بل أتممت عليه نعمك فرزقته من الثمرات ما لا يحصى، ومن الخيرات ما لا يعد.. ومن العمار ما لا يشبهه فيه بلد على وجه الأرض، تأوي إليه كل هذه الأفئدة فيستوعبها، ويزيد، ومن الأمن والنظام، وأحدث الوسائل، ويقين المعتقدين..»........!! ثم وجه وجهه إليّ وقال مبتسماً: «مثلي بنيتي من يُقدر هذه النقلة، وهذا التطوير، ويقارن بين ما كانت عليه مكة حين الحجيج يرحلون إلى عرفات فوق الدواب، ثم أوائل العربات، ثم كيف مهدت الطرق، ووسعت المنافذ، وحوصرت مواقع الشيطان، ونظمت حركة الصعود لعرفات، والنزول لمزدلفة، ومن ثم إلى منى في ساعات قليلة من ساعات أيام خلت، بشتى أنواع الإمكانات، والخدمات، والإعدادات».. حرك رأسه يمنة ويسرة..، ثم عادت فاستغرقت عيناه في التهام صحن الطواف الذي عج بالطائفين، على كل الارتفاعات التي تتطوق كعبة الله..، وتتخلل اتجاهاتها، ومستويات الإرتفاع، والانبساط فيها.. ووجهه ينضح بالبِشْر والبهجة..!.