يقول ابن الجوزي رحمه الله في كتابه ((صيد الخاطر)): لقد تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين، وما يسميه جهلة المتزهدين توكلاً من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك رضي الله عنه: ((أمسك عليك بعض مالك))، وقال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ((لئن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون أيدي الناس)). فإن اعترض جاهل فقال: فقد جاء أبوبكر رضي الله عنه بكل ماله. فالجواب أن أبا بكر صاحب معاش وتجارة فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه فيتعيش، فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله، وإنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله وليس من أرباب المعايش أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلاًّ على الناس. وهذا أمر قبيح بمن يقدر على المعاش، وإن لم يقدر كان إخراج ما يملك أقبح، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس، وربما ذل لبعضهم، أو تزين له بالزهد، وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء والمكافيف والزمنى في الزكاة فعليك بالشرب الأول، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جملة المتزهدين. واعلم وفقك الله تعالى أن البدن كالمطية، ولا بد من علف المطية، والاهتمام بها، فإذا أهملت ذلك كان سبباً لوقوفك عن السير، وقد رؤي سلمان الفارسي رضي الله عنه يحمل طعاماً على عاتقه فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا حصلت قوت شهر فتعبد. واعلم وفقك الله، أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد وقال: لا آكل ولا أشرب ولا أقوم من الشمس في الحر، ولا أستدفئ من البرد، كان عاصياً بالإجماع. وكذلك لو قال وله عائلة: لا أكتسب ورزقهم على الله تعالى، فأصابهم أذى كان آثماً، كما قال عليه الصلاة والسلام ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)). واعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم ويفرغ القلب ويقطع الطمع في الخلق، فإن الطبع له حق يتقاضاه، وقد بيّن الشرع ذلك فقال: ((إن لنفسك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقا)) ومثال الطبع مع المريد السالك كمثل كلب لا يعرف الطارق، فكل من رآه يمشي نبح عليه، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه، فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير، فافهم هذه الأصول، فإن فهمها مهم. وفي موطن آخر يقول ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للعاقل إذا رزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همه، ولا ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه، والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت. فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته وقلل الغلو ليجمع همه، وليقنع بالقليل، فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت، لأن التشتت في الأول للعدم، وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول، فيذهب العمر على البارد. ومن ينفق الأيام في حفظ ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل. واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك وصان عرضك عن الخلق، وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك. فالقناعة بما يكفي، وترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول. ولما أيأس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله نفسه من قبول الهدايا والصلات اجتمع همه وحسن ذكره. ولما أطمعها ابن المديني رحمه الله وغيره سقط ذكرهم، ثم فيمن يطمع؟ إنما هو سلطان جائر أو ملك منان، أو صديق مذل بما يعطي، والعز ألذ من كل لذة، والخروج عن ربقة المن ولو بسف التراب. وفي موضع ثالث من كتابه النفيس يقول ابن الجوزي رحمه الله: العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا، فإن كان فقيراً اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق وقلل العلائق واستعمل القناعة، فعاش سليماً من منن الناس عزيزاً بينهم. وإن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك إن أكثر لإصابته العين فينبغي التوسط في الأحوال وكتمان ما يصلح كتمانه.. وإنما التدبير حفظ المال والتوسط في الإنفاق وكتمان ما لا يصلح إظهاره، ومن الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال، فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج وإن كان كثيراً طلبت زيادة الكسوة والحلي، قال الله عز وجل (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ)، وكذلك الولد، وكذلك الأسرار، ينبغي أن تحفظ منها، ومن الصديق، فربما انقلب. وقد قال الشاعر: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة