كان الشعر يمثل لسكان الجزيرة العربية إلى ماقبل الطفرة النفطية الأولى ديوان (حياة)، وهو بهذه الصيغة الواسعة فإنه ديوان تاريخ وقصص وحروب، وحب وهجاء، والقصيدة الواحدة أو البيت الشعري الواحد قد يختصر مكارم أخلاق قبيلة بكاملها في حدث بطله شخص واحد، ويحدث بالمقابل أن تنسف مكارم قبيلة كاملة بفعل قبيح ارتكبه أحد أفرادها! لماذا الإشارة إلى الشعر الشعبي بأنه ديوان (حياة)؟ لأن سكان الجزيرة العربية الى ما قبل التعليم النظامي تغلب عليهم الثقافة الشفهية -بسبب انتشار الأمية- وهي ثقافة تعتمد على السماع في المقام الأول. لذا كان الشعر الشعبي بمثابة وسيلة اعلامية متفق عليها لتداول أخبار وقصص الناس. وظل الشعر هو المرجع في توثيق تاريخ الجزيرة العربية وخاصة في الوقائع المختلف عليها. ومنذ بداية الطفرة النفطية الأولى في نهاية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي تراجع دور الشعر في ظل تحولات اجتماعية كبرى صاحبت التنمية التي بدأت في البلاد، ومنها انتشار التعليم وزيادة الطبقة المتوسطة وتحول المجتمع الى النمط الاستهلاكي. في نفس الفترة برزت القصيدة الغنائية ولقيت انتشارا وصدى كبيرا، لكنها أخرجت الشعر من معناه الواسع الى حصره فقط في الغزل! ربما أن رفاهية المجتمع في ذلك الوقت كانت سببا مباشرا في ذلك، لكنها ليست السبب الوحيد، ولهذه الرفاهية حكاية أخرى! وبعد أزمة الخليج الثانية 1990م تلاشت الى حد كبير القصيدة الشعرية التقليدية، وحلت مكانها القصيدة الغنائية التي تجاري نمط المجتمع الاستهلاكي، وهي تختلف جذريا عن القصيدة الغنائية التي راجت في بداية الطفرة النفطية الأولى. واذا كانت الاثنتان تتشابهان في غرض الشعر وهو الغزل إلا أن مضامين القصيدة تختلف كليا. هو في الفترة الثانية هبوط المعنى في هاوية لا قاع لها! أتذكر أن الشاعر ناصر السبيعي غنيت له قصيدة تقول: قال: لو حبيت غيرك وش تقول قلت: أحاول قد مقدر أمنعك قال: وأن عيت تطاوعك الحلول؟ قلت: أحبه يابعد عمري معك كنت أقول كيف يمكن لشاعر مثل ناصر السبيعي أن يكتب مثل هذا الكلام المتجاوز ؟ وأقول متجاوز لأنه مخالف للفطرة السوية! ربما أن بروز القصيدة الغنائية السريعة الخالية من أي معنى أو تحمل معنى ساقط هو ما يجعل أي شاعر يجاري هذا التيار؟ أورد هذا المثل وهو ليس للتشهير بقدر تقريب المعنى في كيفية تراجع دور الشعر وبروز شيء آخر لا تعريف سوى أنه يسمى مجازا بالشعر! أتذكر أيضا أن الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن كتب مقالة في التسعينيات الميلادية في زاويته الشهيرة في مجلة المختلف وقال فيها (أعتذر إن لم أعد أكتب ما يبهجكم). حاولت البحث عن المقالة لكن لم أجدها. كانت المقالة تتحدث عن فقدان الشاعر لما يحفزه على الكتابة، واعتذاره هو هنا أن القادم لن يكون مثل السابق! شاعر آخر مثل فهد عافت مرت تجربته الشعرية بمرحلتين، الأولى : وهي ما أسميها بالمرحلة الثورية، كانت عباءته الشعرية زاخرة بالشعر الحقيقي، لكنه تخلى عن هذه العباءة في مرحلته الثانية الحالية التي أراها مرحلة اللعب بالكلمات.استعاض فهد عن الشعر بذكائه ومقدرته الكتابية في كتابة جديدة على الشعر تفتقد نكهة الشاعر الذي يدرك المعنى قبل أن يقوله! أوردت ثلاثة نماذج شعرية معروفة لاستقراء ما حل بالشعر الشعبي ولولا ضيق المساحة لأوردت نماذج أخرى. لكن هذه ليست أسوأ مراحل الشعر الشعبي، فقد جات الألفية الثانية بحالة شعرية غريبة لكنها مفهومة ضمن إطارها، أقصد بذلك تحول الشعر إلى مهنة تدر مالا، بوجوه عدة : من الشعراء من كان يبيع قصائده لمن أراد الوجاهة الاجتماعية والشهرة، ومنهم من استثمر موهبته الشعرية في المحاورات والأمسيات الشعرية المدفوعة الثمن مسبقا! ثم جاءت فكرة برامج مسابقات الشعر التلفزيونية فتحول المشهد الشعري إلى ما يشبه المأساة المضحكة، فقد أسست هذه الحالة إلى ما يعرف الآن (بالشحاذة) عبر الشعر. كل من ملك القليل من الشعر والكثير من الصراخ يستطيع أن يتحول إلى مشروع شحاذة لا تعرف له نهاية. وأتذكر أن صديق يتولى إدارة في إحدى القطاعات الخدمية كان يشتكي من القصائد التي تلقى بين يديه طلبا لخدمة ما، ورغم افهامه لصاحب الخدمة أنه لاحاجة له بذلك، وأنه في هذا المكان لخدمته، إلا أن عدد الشعراء الشحاذين يتزايد. كنت أقول له: هل يضرك المدح ؟ أجابني بغضب : أنا أعرف بنفسي.. والكلام اللي يقولونه مهوب لي أبد! قرر في النهاية طرد كل من يشحذ بشعره قبل أن يكمل مطلع قصيدته! هل انتهت الحكاية؟ لم تنته. ربما نحن مقبلون على فترات أسوأ من ذلك، واستشهد هنا بصديق قرر ترك الشعر طواعية، رغم موهبته الشعرية وخاصة في غرض الحكمة، سألته عن السبب، فأجاب: والله أني أستحي أن يقال لي شاعر في ظل هذه الفوضى الشعرية!