في خضم، وغمرة، الأحداث والصراعات السياسية، والاضطرابات والمحن التي تضرب عالمنا العربي، وفي ارتباك البوصلة، وفقدان المجهر الذي يمكن أن ترى به الحقيقة، وبسبب غموض الطريق والدخول في مجاهل ودهاليز التيه العقلي حيث تعمى الحقيقة على المرء الفطن ويصيبه الذهول من عدم سيرورة الأمور وفقاً لطبيعتها ولناموسها، وقانونها الأخلاقي، إذ لا يرى المرء حوله حين يفتح عينه وعقله إلّا التناقض والقلق والاضطراب، فلا يجد تفسيراً لما يحدث حوله..! حيث يصول الشر على الخير، ويبطش الباطل بالحق، فيأخذه الوجل من سوء العاقبة، وتراه يتلمس الطريق خوفاً من سوء العاقبة والمصير.. في مثل هذا الارتباك والحيرة والغموض والتخبط.. فليس له من سبيل في علاج أزمته والحالة هذه إلّا أن يتفاءل وأن يتلمس ويبحث في العتمة عن نقطة ضوء قد تهديه إلى الخروج من كربه، وتبعث فيه شيئاً من راحة وفأل.. فالحياة ليست دائماً في طوع الأحياء، ولا تسير وفق مشيئتهم.. بل هي بيد مصرف الأمور، ومؤلف إيقاع الحياة ومدبرها، ومن ثم فإنه لا عون إلاّ منه، ولا متكل إلى عليه، فالحياة بلا عون إلهي غرفة معتمة بلا أوكسجين، ليس لها منافذ للهواء والنور..! والحي فرضت عليه الحياة دون طوعه أو اختياره.. فرض عليه أن يعيش بها عمراً محدداً وتاريخاً محدداً، وأقداراً محددة... صحيح أن الإنسان لا يسير في الحياة بطريقة آلية محضة، فله اختياراته الخاصة، وله إرادته الخاصة، ولكنه يتحرك وهو في قبضة الغيب.. لا يعرف ما الذي سيصادفه ليس في غده بل فيما بعد لحظته التي يفكر فيها.. ومن ثم فإن مستقبله، وحياته كلها مجهولة. نعم إن له الحرية في أن يجتهد في رسم مستقبله، ولكن ذلك يس مضموناً على إطلاقه في تطبيقه دوماً كما يدبر ويريد.. قد يخطط لمستقبله ولكن ذلك وفق إمكانيات عقلية وهواجس نفسية خلقت معه، كمنهج مبدئي لمسيرته الخاصة، ليحدد موقعه في هذا الوجود، ولكنه يظل دائماً عرضة للإعاقات، والمفاجآت، التي قد تغير وجهة ذلك كله، ما دام عائماً في هذا الوجود الذي لا يدري كيف سينتهي، ولا يدري كيف صار، وماذا سيؤول إليه. وإذا كان هذا العقل الذي يظنه عقلاً جباراً لم يستطع أن يوصله إلى حقيقة أمره، ولا حقيقة وجوده ولا حقيقة ديمومته ومنتهاه.. ولا يكشف له غموض مستقبله أي أنه لا يرى ولا يجزم بمآله فإن هذا العقل غير قادر على إنقاذ نفسه من واقعه، وإنفاذ مبتغاه. وبما أن الإنسان يختلف عمن سواه بأنه في جوهره، «عقل» فإن من الضروري له أن يتحرك في البحث عن ذاته، وعن أسباب وجوده، عليه أن يسأل: هل وجوده في كونه المنظم المنتظم هو عبث، في عبث..؟ وهل العقل في حد ذاته عبث؟ هل العقل في حد ذاته فوضى؟ أم أن العقل «نظام» يسير ويتحرك، ويعيش ويؤدي دوره بإحكام..؟ من المؤكد أن العقل ليس عبثاً فهو عقل بمبدع ومبتكر وخلاق، وهو يتعاطى مع وجود لا عبث فيه ولا فوضى.. إذاً فمرد العقل للمنطق والنظام، والإحكام.. ولكن ذلك وفق قدرته.. كما هي قدرته في السمع والبصر.. ومن ثم فإنه لا بد أن يكون وراء هذا العقل -بالضرورة- قوة مدبرة غير مرئية بالبصر ولكنها مرئية بالبصيرة.. فالبصيرة تقول إن الكون كله وجد وفق نظام محكم، وزمن محكم، وبقدر محدد محكم أيضاً، أي أن هذا الكون لم يكن نتيجة فوضى ولا عبث، وإنما هو نتيجة تدبير وراءه مدبر وصانع، وأن هذا المدبر وهذا الصانع، هو صانع عظيم يستحق أن تبحث عنه بعقلك، وبصيرتك التي لن تطمئن إلّا بالركون إليه، فهو الذي «خلق الموت والحياة» أي هو الذي أوجد الوجود والعدم.. وأنت أيها الكائن الحي خلقت من عدم وستعود إلى عدم..! فمن يهديك، ومن يدلك، ومن يرشدك في هذا الوجود المُحدث السريع، إذا كان العقل وحده لن يكشف الحجب، ولن يلمس اليقين..؟ لا شك أنك محتاج إلى عون صانعك وصانع الوجود من حولك.. فعندما تشعر به فسوف تشعر أنك في تدبيره وفي قبضته، وأنه كما صنعك من العدم صنع مستقبلك «قدرك»، وأنك مستقل بكل ما تخار من حرية وإرادة، إلاّ أنها تظل إرادة داخلة في إطار قدرك العام، أي أن لك إرادة خاصة تصنعها أنت فيما تستطيعه، وبرنامجاً عاماً هو الذي يسيرك فيما لا تستطيعه، وهو الذي يديرك ويدبرك وفقاً لإرادة عليا ليس لك بها ولا بفعلها شأن، إلّا أن تطب منها -أي الإرادة العليا- العون، والسند، والمساعدة، وذلك في استسلام من لا يملك وسيلة التمرد، أو العصيان علي واقعه، ليستطيع تعديله وتثبيته، وبرمجته وفق ما يشاء، فيحدد غده وبعد غده، ومرضه، وصحته، ومسافة عمره، ومراحل حياته، وحركة الأحداث من حوله.. فهذا ليس من اختصاص المرء، ولن يستطيع التمكن منه، أو الوصول إليه، ومن ثم فإنه لا بد من الركون إلى عالم عارف لطيف خبير، يعرف ماذا تكسب نفس غداً وبأي أرض تموت.. فتستسلم له بالانقياد والطاعة، تطلب منه الرأفة والرحمة واللطف بك.. تطلبه أن يقيك شر ما قضى فهو يقضي بما يشاء، وهو كل يوم في شأن، وليس المراد من ذلك الاستسلام المتواكل، والمنشل والجاهد وإنما يكون في اجتهاد العامل الفاعل المتحرك المثابر والله المدبر المهيمن له ملك الغيب، وله ملك الشهادة، ومتى توكلت عليه، وأنبت له، وفوضت أمرك إليه، فقد اهتديت وخرجت من ظلمات الشك والتخبط والتيه إلى نور الحقيقة والطمأنينة، والرضا واليقين.. ومن ثم فإنك ستنظر إلى ما حولك من صراع نظرة مختلفة، هي جوهر الصراع بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين الحق والباطل، بل قد تراه هو التناقض بين السالب والموجب حيث يشكل هذا التناقض قوام الحياة..! فلو اهتديت إلى ذلك لأصبحت في زمرة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.