نشرت صفحة «مدارات شعبية» يوم 4-12-1434ه الحلقة الرابعة والأخيرة من مقالات الكاتب عبدالعزيز القاضي (تشويه الشعر النبطي من خلال ظاهرة التفاصح) والذي لفت نظري هو ما ورد في الحلقة الثانية (ع14955 في 2-11-1434ه) التي تناول فيها الكاتب بيت الشاعر بديوي الوقداني بالطرح الآتي: (.. أما قول الشاعر بديوي الوقداني: المال يحيي رجال لا طباخ ابها.. كالسبيل يحيي الوشيم الدمدم ليالي)، فهو (تضمين) محور إلى العامية من بيت حسان رضي الله عنه: (المال يغشي رجالاً لا طباخ بهم.. كالسيل يغشي أصول الدندن البالي). يبدو أن الأستاذ عبدالعزيز لم يتأكد من نص البيتين.. ذلك أن الشاعر بديوي الوقداني لم يقل في بيته: (ارجالٍ) وإنما قال: (رجالاً). ولم يقل: (لا طباخ)، وإنما قال (لا حياة) ولم يقل: (ابها)، وإنما قال: (بها). وحسان بن ثابت رضي الله عنه لم يقل في بيته: (رجالاً) وإنما قال: (أناساً)، ولم يقل (بهم) وإنما قال: (لهم).. إن نص بيت حسان بن ثابت رضي الله عنه في ديوانه هو: والمال يغشى أناساً لا طباخ لهم كالسيل يغشى أصول الدندن البالي ونص بيت بديوي الوقداني في ديوانه هو: المال يحيى رجالاً لا حياة بها كالسيل يحيى الوشيم الدمدم البالي (الدِّندِن) بكسر الدال المشددة الأولى وكسر الأخرى تعني النبت البالي، أو الذي يأتي من أصول الشجر والنبت. و(طَبَاخ) بفتح الطاء والباء من لا عقل لهم ولا خير عندهم.. كما في شرح الديوان. أما الهشيم في بيت الوقداني فهو صغار الشجر اليابس المتفتت، و(الدمدم) الهالك من صغار الشجر الملتصق بالأرض كما في الصحاح. والسؤال.. هل بيت الشاعر بديوي الوقداني (تضمين) محوَّر إلى العامية من بيت حسان بن ثابت، كما يقول الأستاذ عبدالعزيز القاضي..؟. وقبل الدخول في موضوع الإجابة، أشير إلى أن شارح ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه الأستاذ عبدالرحمن البرقوقي ذكر أن البيت المذكور والأبيات الأخرى، وردت للشاعر حية بن خلف الطائي، كان يخاطب بها امرأة يقال لها أسماء، كان يرغب الزواج وتقدم لِخُطْبَتها.. والأبيات أوردها على النحو التالي: تقول أسماء لما جئت خاطبها يا حيّ ما أربي إلا لذي مال أسماء لا تفعلينها ربّ ذي ابل بغشى الفواحش لا عفّ ولا نال الفقر يزري بأقوام ذوي حسب وقد يسود غير السيد المال والمال يغشى إناساً لا طباخ لهم كالسيل يغشى أصول الدندن البالي إلى آخر الأبيات التي أوردها البرقوقي ولم يعلق عليها. إن معاني الشعر الجيدة، التي ترد في أشعار الشعراء، يتأثر بها عند سماعها أو قراءتها بعض الشعراء الآخرين، فيأخذ الشعراء المتأثرون هذه المعاني التي أعجبوا بها، بحيث تصاغ المعاني المأخوذة في أشعار جديدة، ولشعراء غير الشعراء الذين كان لهم أولية السبق إليها. وقد يشترك بعض الشعراء في المعنى الواحد، من باب الإلهام وتوارد الخواطر المشتركة، وليس من باب الأخذ أو القراءة أو السماع.. يقول المتنبي: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي وعلق شارح البيت (العكبري) بقوله: وأصل هذا كقول عامر بن الطفيل: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب ولكنني أحمي حماها واتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكب وقال الليثي: لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الاحساب نتكل وقال الرضى الموسوي: فخرت بنفسي لا بقومي موفراً على ناقصي قومي مآثر أسرتي ومنه قول الآخر: وإذا افتخرت بأعظم مقبورة فالناس بين مكذب ومصدق فأقم لنفسك في اكتسابك شاهداً بحديث مجد للحديث محقق ومنه قول الشاعر: قد قال قوم اعطه لقديمه جهلوا، ولكن اعطني لتقدمي فأنا ابن نفسي لا بعرضي احتذي بالسيف لا بتراب تلك الأعظم هذا المعنى الجيد، الذي يدل على قوة الاعتزاز بالنفس، والاعتماد على الذات، وعدم الاتكال على ماضي الآباء والأجداد، أخذه الشعراء الستة من خلال السماع أو القراءة، وعن طريق التأثر والإعجاب.. وربما يكون هذا المعنى ورد إلى أفكار بعض الشعراء من باب توارد الخواطر، التي تشترك في المعنى الواحد دون قراءة أو سماع. والشاعر بديوي الوقداني كغيره من الشعراء، تارة ترد إليه المعاني عن طريق القراءة أو السماع، وأخرى عن طريق الخواطر المشتركة، فيشترك مع غيره في المعنى، دون قراءة أو سماع. وأعود إلى السؤال الذي طرحته سلفاً وهو: هل بيت الشاعر بديوي الوقداني (تضمين) لبيت الشاعر حسان بن ثابت كما يقول الأستاذ عبدالعزيز القاضي..؟. والإجابة هي: لكي يكون بيت الشاعر بديوي الوقداني (تضميناً) لبيت الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه، فإن (التضمين) يتطلب أن يكون بيت الشاعر بديوي الوقداني بكلماته ومعناه هو بيت حسان بن ثابت بكلماته ومعناه. فلو قال الشاعر بديوي الوقداني في بيته مثلاً: المال يغشى أناساً لا طباخ بها كالسيل يغشى أصول الدندن البالي لكان بيته في قصيدته (تضمين) حقيقي لبيت حسان بن ثابت. ولكن الشاعر بديوي الوقداني قال: المال يحيي رجالاً لا حياة بها كالسيل يحيى الهشيم الدمدم البالي فالوقداني أخذ من بيت حسان ثلاث كلمات هي: (المال) (السيل) (البالي).. وهذه الكلمات لا تؤدي أو تحكم على البيت ب(التضمين)، إذ إن كلمات البيت الأخرى تستقل به عن الوقوع في حكم (التضمين) وهي: (يحيي) (رجالاً) (لا حياة) (بها) (الهشيم) (الدمدم). يقول العالم علي بن فضّال القيرواني الفرزدقي: واخوان اتخذتهمو دروعاً فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات فكانوها ولكن في فؤادي المعنى أعجب ابن الرومي فأخذه وقال: اتخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا سهام العدى عني فكنتهم نصالها وقد كنت أرجو منكم خير ناصر على حين خذلان اليمين شمالها فابن الرومي أخذ من بيت علي بن فضال أربع كلمات هي: (اتخذتكم) (درعاً) (سهاماً) (العدى).. ولم يقل صاحب كتاب الأمثال شعراً ونثراً خازن عبود الذي أورد الأبيات، لم يقل إن البيت (تضمين)، وإنما أشار إلى أن ابن الرومي أخذ المعنى أو قال المعنى نفسه. يقول الشاعر العراقي جميل الزهاوي: لقد كنت في درب ببغداد ماشياً وقد أوشكت شمس النهار تغيب فصادفت شيخاً قد حنى الدهر ظهره له فوق مستن لطريق دبيب عليه ثياب رثة غير أنها نظاف فلم تدنس لهن جيوب تدل غضون في وسيع جبينه على أنه بين الأنام كئيب أحالوا عليه بالحصى يرجمونه وفي الرأس منه شجة وندوب فساءلت من هذا؟ فقال مجاوب هو (الحق) جاء اليوم فهو غريب فجئت إليه مسرعاً ومواسياً ودمعي على الخدين منه صبيب وقلت له: إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب والبيت الأخير من أبيات الزهاوي (تضمين) لبيت امرئ القيس: أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب إذن.. الزهاوي لم يأخذ من بيت امرئ القيس ثلاث كلمات من أجل (التضمين)، وإنما ضم البيت كاملاً باستثناء كلمة (أجارتنا)، التي استبدلها بكلمة (فقلت له)، لكي يدخل بهذه الكلمة إلى بيت امرئ القيس ويضمه إلى أبياته، حتى تكتمل صورة المعاني، التي نجمت عن الحالة المحزنة، التي اعترضت طريق (الحق) من أعدائه وخصومه من أهل الظلم والباطل، إنه لكي يكون بيت الشاعر بديوي الوقداني (تضميناً) لبيت حسان بن ثابت رضي الله عنه فإن (التضمين)، كما أسلفت يتطلب أن يكون بيت حسان بكلماته ومعناه، هو بيت بديوي الوقداني بكلماته ومعناه، كما هو الحال في بيت امرئ القيس مع أبيات الزهاوي. إن الشاعر بديوي الوقداني لا شك أنه استعان بالمعنى أو أخذ المعنى من بيت حسان بن ثابت رضي الله عنه. أما القول بأن البيت (تضمين) و(تحوير) من الفصحى إلى العامية، فدعوى تحتاج إلى دليل ثابت.