في زمن ليس بالبعيد عشت كما عاش الكثيرون من أبناء جيلي بأرياف وقرى هذا الوطن المعطاء، وكانت قريتي صغيرة تنعم بنعم عديدة وكثيرة، أهمها وفرة المياه العذبة الصّافية نزولاً من السَّماء أو خروجاً من باطن الأرض، وما كنا نظن يوماً من الأيَّام أن هذه النّعمة العظيمة شريان الحياة سوف تقل أو تندثر، ولكنَّ شاءت الأقدار الإلهية أن ينضب هذا الماء من آبار القرية، وتأبى السَّماء أن تسقط مطراً وطال انتظارنا حتَّى باتت القرية عطشى وخرج أهلها إلى أكبر ميادينها بعد أن تنادوا لاجتماع أمر هام وعاجل بخصوص ما حل بقريتهم. - يا قوم إن ما حدث لقريتنا هو أمر عظيم... بذلك تحدث السَّيِّد صالح رئيس المركز.. رجل تخطت سنوات عمره السّتين ورغم ذلك تبدو على محياه حيوية روح الشّباب فدوماً مبتسم ومسود الشعر، وذلك ما كان يحيرني سواد شعره الدّاكن. انتفض أحدهم متسائلاً: إن آبار القرية من أغزر الآبار ماء في المنطقة كلها.. فكيف حدث هذا؟! وعم الصّمت للجميع فالسّؤال يحتاج إلى شخص للإجابة عنه.. فقد اتجهت أنظار القوم إلى الدّكتور عاصم والمعجبون ملتفون حوله يطمعون في إجابة مقنعة وهو الرّجل الَّذي يحمل لقباً علمياً وإن كانوا لا يدركون ذلك جيداً أو لا يعلمون في أيِّ مجال من مجالات الحياة له هذا اللقب فهو مدير مركز الرّعاية الأوَّليَّة بالقرية، وهو أكثر أهل القرية ثقافة وعلماً.. وكان لا بُدّ له أن ينطق ونطق.. هذا أمر طبيعي جداً وسوف تعود المياه... إلى ما كانت عليه فسبحان الخلاق العظيم, الَّذي تجلَّت قدرته, وتناهت عظمته!! وقبل أن يسترسل في أيِّ تفسيرات علميَّة قاطعة تدخل إمام المسجد الشَّيخ عثمان يردد لا.. لا.. لا.. الأمر أكبر من ذلك بكثير. وهناك أقبل مدير المدرسة الأستاذ عبدالمجيد الَّذي يحترمه كبار القوم بالقرية، فضلاً عن صغارها لصرامته وشدته قائلاً: لقد قرأت عن ذلك في كتب التَّأريخ عبر العصور وهذه ليست أوَّل مرَّة.. ما رأيك يا سَعِيد؟!! وتنبه سَعِيد بعد فترة من الوقت أنَّه المقصود.. ما هذا ليست لي صلة بهذا الأمور.. أنا رئيس مركز الشّرطة هنا ولست عالماً.. بذلك تحدث في قرارة نفسه قائلاً: لم يكن شيء من ذلك يدور في خلدي -وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء واللهذو الفضل العظيم ولكنَّه أجاب بخلاف ذلك.. سوف نعمل على ترشيد استهلاك المياه المتبقية وسوف أنشر حماة الديار في وجه الغزاة قديماً وسنظلُّ حُماة الآبار- بعون الله تعالى في وجه غُزاة العصر لتنفيذ ذلك فنظر إليه الدكتور عاصم مبتسماً وهو يقول: أحسنت.. ولكني سوف أجد حلاً آخر كذلك.. لنجلب المياه من القرى المجاورة التي تملك مياه وفيرة وغزيرة، ولكن ماءهم ملوث وإني لأخشى انتشار الأمراض القاتلة بين الأهالي وبذلك بادر السَّيِّد ناصر كبير تجار القرية مسترسلاً حديثه وهو يتسم ابتسامة ذات مغزى وذات هدف.. ولكن لا توجد مشكلة فيمكننا تصفية المياه وإن استدعى الأمر إلى قيام مصنع لذلك فقال الدكتور عاصم: هذا أمر مكلف جداً لا تحمل قلقاً ولا هماً للتكلفة بذلك. رد عليه كبير التجار.. إن كنت قلقاً لما حدث لك في الماضي فاتخذ منه العبرة ولا تُفكِّر في استعادته, فإن الماضي لن يعود مهما حاولت.. أما الشيخ عثمان فقد كان يجول بعينيه في الأرض تارة ويرفعهما إلى عنان السماء تارة ويعيش هموم الماضي والحاضر والمستقبل فقال لهم. إن الماء في السَّماء.. فنظر الجميع إلى عنان السماء.. فما وجدوا سحباً أو بريق أمل، وعادت أعينهم إلى الأرض متحسرة. وعندما رأى الشيخ عثمان الخيبة على وجوههم أضاف قائلاً: لا داعي للقلق ولا للحزن يا سادة يا كرام فإن حجبت السماء الماء فإن الماء موجود تحت أقدامنا لنحفر بئراً جديدة، وبمشيئة الرحمن سنجد ماء، فكرة متعبة ومرهقة ولا طاقة لنا بها بذلك تحدث السَّيِّد صالح متألماً ومتأففاً من اقتراح الشيخ عثمان، لكن الأستاذ عبدالمجيد أثنى على هذا الاقتراح قائلاً: فلنجرب ونحاول هذا الحل لنحفر بئراً وانفض الاجتماع بعد أن اتفقوا على حفر بئر جديدة، بدأ العمل به من صباح ذلك اليوم.. ولكن ما جاء إلا قلَّة من أهل القرية ويوماً بعد يوم تناقص العدد إلى أن أصبحوا اثنين فقط الشيخ عثمان والأستاذ عبدالمجيد.. وبدأ أهل القرية في جلب المياه من القرى المجاورة، وبدأ كبير التجار يدرس إمكانية إنشاء مصنع لتصفية وتنقية المياه الواردة من القرى المجاورة ويحلم بتلك الأرباح الضخمة التي سوف تتحقَّق له، لكن بدأت الأمراض تصيب أجسام أهل القرية الصغيرة والكبيرة بدون استثناء لتلوث تلك المياه، فبدأت قوافل البشر من الأهالي بالهجرة إلى قرى أخرى، بل إن البعض منهم رحل إلى المدن الكبيرة والحضر وأصبحت القرية خاوية على عروشها من الأهالي وبعد طول الفترة من العناء والمشقة والتعب والجهد والصبر ظهرت المياه في تلك البئر الجديدة التي واظب الشيخ عثمان والأستاذ عبدالمجيد بالحفر المستمر يوماً بعد يوم. أخيراً وجدناً الماء يتدفَّق بغزارة يا شيخ عثمان ومن يشرب هذا الماء الوفير وكان رداً كئيباً ومقتضباً قال الشاعر الحكيم: وما نيل المطالب بالتمنَّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا وقال شاعر آخر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسُّراً وإذا افترقنا تكسرت آحاداً