حين نتحدث عن التنمية لأيِّ دولة فذلك يعني ضرورة تضافر الجهود لضمان نجاح خططها وبالتالي وصولها إلى جميع مفاصل الاقتصاد. «الجزيرة» تستعرض قضية التنمية والسبب في عدم تغطيتها لمفاصل الاقتصاد مما أدَّى إلى عدم انعكاس هذه التنمية على المواطن وفقًا لما هو متوقع أو مستهدف، وبداية أوضح رئيس اللجنة الوطنيَّة الصناعيَّة المهندس سعد المعجل أن هذا الخلل يعود لعدّة أسباب منها التضخم الذي تعاني منه المملكة وهو الأعلى خليجيًا، فالزيادة المتواصلة في تكاليف الإنتاج من العمالة والمواد الخام والتلويح وبقوة بزيادة تكاليف الطاقة الصناعيَّة أو عدم توافرها، كلّّها أمورٌ واقعية لا ينفع فيها التصاريح المستمرة بأنها لن تُؤثِّر على تكلفة الإنتاج، وقال: أصبحت الجهات الحكوميَّة جهات جباية بدلاً من أن تكون جهات خدميَّة تسعى لرفاهية المواطن وتحسين مستواه. ويضيف المعجل أن من ضمن الأسباب هو السكن فالسكن الخاص سواء كان شقة أو فلة صغيرة أو منزلاً شعبيًّا أصبح حلمًا بدلاً من أن يكون برنامجًا واضحًا يحصل عليه المواطن والإيجارات في ازدياد مستمر والأرض السكنية أصبحت حلمًا في مدينة مثل الرياض أو جدة أو غيرهما. فالمواطن يحلم بحياة عائلية معقولة ولكن هذه الأحلام أصبحت صعبة جدًا، مشيرًا إلى أن نسبة تملك العائلة السعوديَّة للسكن نسبة قليلة وغير معقولة في وطن توفرت فيه المساحات الشاسعة من الأراضي وتوفرت لديه الفوائض الماليَّة الخارجيَّة، إِذْ يكفي المقارنة مع دول مثل سنغافورة أو ماليزيا أو حتَّى الولاياتالمتحدة. وتطرَّق المعجل إلى مشكلة أخرى أثرت على موضوع التنمية وهي البيروقراطية حيث قال: لا شكَّ أن البيروقراطية الشديدة في الوزارات والهيئات والمصالح الحكوميَّة التي يتعامل معها المواطن السعودي لقضاء حاجاته بشكل يومي هي أحد بنود هذا الخلل، فالمعاملات تمتد إلى أيام وأسابيع، بل ربَّما إلى شهور، مما يعطل المواطن عن قضاء حاجته بسهولة ولا يجعله يشعر بأثر هذه التنمية من حوله، منوهًا إلى أن البيروقراطية أفرزت انتشار الفساد الإداري في بعض الجهات وتعطيل أعمال المواطنين وتوغل هذا الفساد في بعض عقود التشغيل والصيانة والنظافة وعقود الإسكان التي يمتد تأثيرها المباشر إلى المواطن. وشدَّد رئيس اللجنة الوطنيَّة الصناعيَّة على أن تعثر تنفيذ الإستراتيجيات المخططة مسبقًا هي من المشكلات الرئيسة في التنمية. واستطرد قائلاً: لكوني أحد رجال الصناعة فالإستراتيجية المتعلِّقة بهذا القطاع وتبنَّتها وزارة التجارة والصناعة التي كان هدفها مضاعفة نسبة الصناعة من الدخل القومي من 10 في المئة إلى 20 في المئة بحلول العام 2020م أصبحت متعثرة، فنحن الآن بعام 2013م والواقع يؤكد لنا أن تحقيق هذا الهدف بات مستحيلاً، فبالرغم من زيادة قيمة الناتج الصناعي إلا أن حصته من الناتج الإجمالي القومي دون المستوى الذي تهدف إليه هذه الإستراتيجية ربَّما، لأن التوجُّه كان مقتصرًا على الاستثمار في صناعات أساسيَّة بينما كانت الشركات الكبرى تركز عملياتها في الدول المتقدِّمة وبعض الدول النامية التي تراكمت لديها خبرات فنيَّة وبشريَّة وبنية تحتية وهذا يعني أن الدول الآسيوية حديثة التصنيع كانت الأكثر جاذبية في استقطاب الاستثمار الأجنبي وهنا كانت المنافسة القوية في جذب الشركات الكبرى إلى بلادنا. وأضاف المعجل أنَّه وبالرغم من الحوافز التي تقدمها المملكة للمستثمر الأجنبي مثل تكلفة الطاقة المنخفضة والمدن الصناعيَّة والقروض وغيرها إلا أنها لم تكن كافية، فالمهارة الفنيَّة والمعرفية والإداريّة والتنظيميّة والتكنولوجيا لها الدور الأكبر في تفضيل الشركات الكبرى للاستثمار في منطقة دون أخرى، وإذا لم نغير من إستراتيجيتنا حتَّى نحقق هذا الهدف المنشود لارتفاع حصة الصناعة من الناتج المحلي عام 2020م إلى 20 في المئة فلن نصل إلى هذا الهدف. وأكَّد المعجل ضرورة توفير بيئة صناعيَّة متكاملة ومتطوّرة تيسَّر كافة السبل التي تَضمَّن سرعة إصدار التراخيص الصناعيَّة والإعفاءات الجمركية للشركات الصناعيَّة بالتنسيق مع وزارة التجارة والصناعة بل مثلما أنشأت الدَّوْلة هيئة للاستثمار وهيئة للمدن الصناعيَّة وهيئة للصادرات فإنَّ إنشاء هيئة مستقلة للصناعة ستكون المخرج الوحيد لتحقيق أهداف وخطط هذه الإستراتيجية الوطنيَّة فيما تبقى من وقت لذلك في عالم متسارع الخطى من حولنا. وأشار إلى مشكلة أخرى متعلّقة بالتنمية وهي تباين مستوياتها بين مناطق المملكة، هذا التباين الواضح أدَّى إلى هجرة السكان من منطقة لأخرى وزادت حدة المشكلات الاجتماعيَّة والخدميَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة ما يُعدُّ سببًا آخر في عدم إحساس المواطن بأثر هذه التنمية. كما أن الازدحام المروري الخانق في أوقات كثيرة بالمدن الرئيسة كالرياض وغيرها والبطء في تنفيذ مشروعات التنمية بوزارة النقل كالكباري والأنفاق والقطارات والسكك الحديدية والبحث عن حل بعد وقوع المشكلة هو أحد الأسباب أيْضًا، وإن كنا لا ننكر أبدًا الدور الذي تقوم به هذه الوزارة من مشروعات عملاقة إلا أن هذه المشروعات لديها الكثير من الوقت، ولم ينعكس أثرها على المواطن بعد. وفي ختام حديثه أوضح المعجل أن ما يبعث على الأمل هو ما نراه من الاهتمام المباشر والمستمر لأولي الأمر - رعاهم الله - ومحاولتهم الدؤوبة لوصول هذه التنمية إلى المواطنين فما بين إنشاء هيئة مكافحة الفساد (نزاهة) والاهتمام ببناء الاقتصاد الوطني القائم على المعرفة بكوادر وطنيَّة وانتشار الأمن والأمان ودعم المناطق الأقل نموًّا وتقديم المزايا النسبية لها كل ذلك سيحقق هذا الأمل ليصل إلى المواطن ما تبذله حكومة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- من أجله. من جهته أشار الأكاديمي الاقتصادي الدكتور محمد الزهراني إلى أنه من السهل أحيانًا إطلاق الأحكام على الأمور من واقع شعور عام أو من واقع تجارب خاصة ولكن حتَّى نستطيع أن نجيب عن خلل التنمية بشكل موضوعي وعلمي لعلّه من المهم النظر في الإحصائيات التي تقيس جوانب التنمية الاقتصاديَّة، وقياس مدى ارتباطها بالنمو الاقتصادي الحاصل، مضيفًا أن المتابع للنمو في الناتج القومي للمملكة من عام 2008 حتَّى 2012 يجد أن 6 في المئة تقريبًا سنويًّا وهو قريب من معدل نسبة الزيادة السنوية في سعر برميل البترول. وهذا غير مستغرب لأن الاقتصاد السعودي -كما نعرف- يعتمد بشكل رئيس على الموارد الطبيعيَّة النفطية. وإذا ما قارنا نسبة النمو في الناتج المحلي بالنسبة إلى بعض المعايير المنشورة التي تقيس أثر النمو على التنمية الاقتصاديَّة مثل المعايير الخاصَّة بالتَّعليم والصحة ومدى توفرها للموطنين، نجد أن المملكة تحقق نموًّا واضحًا في تلك المعايير حتَّى بالنسبة إلى الدول الأخرى، مما يجعل الجزم بأن النمو الاقتصادي لم يحقِّق التنمية الاقتصاديَّة في هذه الجوانب وهو أمر صعب. وأضاف الدكتور الزهراني قائلاً: لكن تبقى هناك معايير مُعيَّنة تساعد على الإجابة عن السؤال بشكل أفضل مثل معدل دخل الفرد وهنا لا أقصد نصيب الفرد من الناتج القومي لأن هذا قد لا يعكس دخل الفرد. بل حتَّى معدل الدخل بالنسبة للفرد قد لا يعطينا تصورًا عن مدى المساواة في توزيع الدخل، فمثلاً من مؤشرات التنمية الاقتصاديَّة المساواة في توزيع الدخل، فمن المهم أن نرصد الفارق بين الأعلى دخلاً والأقل دخلاً ومعرفة ما إذا كان النمو الاقتصادي قد ساعد في ردم الهوة أو زيادتها. وكون هذه الإحصاءات وغيرها غير موجودة بشكل دقيق من الصعب، كذلك الجزم بأن النمو الاقتصادي بالمنظومة الحالية يُؤدِّي بالضرورة إلى التنمية الاقتصاديَّة المنشودة، خصوصًا أن هناك مؤشرات تشير إلى مشكلات اقتصاديَّة قد تُؤثِّر في مدى الاستفادة من النمو الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، معدل البطالة لم يتغيّر كثيرًا خلال الخمس سنوات الفائتة ويتراوح بين 10 إلى 12 في المئة. على أن الاقتصاد ينمو بنسبة 6 في المئة سنويًا، تحويلات الأجانب تزيد سنويًّا بمعدل 10 في المئة وهي قريبة من نسبة الزيادة في الإنفاق الحكومي في نفس الفترة، بل إن مجموع تحويلات الأجانب للخارج تساوي تقريبًا 90 في المئة من معدل الناتج القومي لقطاع الإنشاءات وهو القطاع الذي استفاد من النمو الاقتصادي الحالي بشكل كبير. ولو نظرنا إلى معدل المشاركة الاقتصاديَّة للمواطنين لوجدنا المعدل بالنسبة للمواطنين الذكور مقبولاً مقارنة بالدول الأخرى وهو 60 في المئة، ولكن معدل مشاركة الإناث يصل فقط إلى 6 في المئة. ولهذا فإنَّ جزءًا من النمو الاقتصادي لا يخلق وظائف بالضرورة للمواطنين وقد يخلق وظائف لغير المواطنين، ولكن حتَّى هؤلاء لا ينفقون محليًّا بشكل كبير، لذلك فمدى الفائدة المتحصلة من النمو الاقتصادي قد لا تكون بالمستوى المطلوب، وقدم الدكتور محمد الزهراني إجابة عن سؤال أين الخلل؟ حيث نوّه أنّه ومنذ خمسين عامًا والاقتصاديون يكادون يتفقون على أن الحصول على عوامل الإنتاج من رؤوس الأموال والموارد الطبيعيَّة والأيدي العاملة والتقنية يعد كافيًا لتحقيق النمو الاقتصادي وبالتالي التنمية الاقتصادية. وهذا ما حصل فعلاً في الغرب في أوائل القرن الماضي. ولكن عندما تَمَّ تطبيق تلك النظريات في الدول الأخرى جاءت النتائج غير مشجِّعة مما جعل الاقتصاديين يتساءلون عن السبب أو ما هو العامل المهم الذي لم يفكروا فيه بعد. وفي بداية هذا القرن بدأ الحديث عن أثر البيئة المؤسسية في تحقيق التنمية، فأصبح جمع رؤوس الأموال وامتلاك الموارد الطبيعيَّة والتقنية والأيدي العاملة أمورًا ضرورية ولكنها غير كافية. فالأهم هو كيفية استغلال تلك الموارد. وهذا هو دور المؤسسات في الدولة، فسيادة القانون وحفظ الحقوق ووضوح التشريعات واكتمالها والقضاء على الفساد وتحقيق الكفاءة والإنتاجيَّة في المؤسسات كلّّها تشير إلى البيئة المؤسسية، مضيفًا أن المتابع للشأن الاقتصادي السعودي ومن واقع بعض الحلول المطروحة لمشكلات اقتصاديَّة مُعيَّنة مثل السكن والبطالة يجد أن الحلول لم تطرح في ظلِّ منظومة اقتصاديَّة متكاملة، بل خرجت لحلِّ مشكلة مُعيَّنة بغض النظر عن أثر ذلك الحل أو علاقته بجوانب الاقتصاد الأخرى، وهذا يشير إلى ضعف في رسم سياسات اقتصاديَّة عامة ومتكاملة تُؤدِّي إلى أثر أعمق في حل المشكلات الاقتصاديَّة وتُؤدِّي إلى الاستفادة القصوى من الانتعاش الاقتصادي الذي نعيشه. إلى ذلك أشار الخبير الاقتصادي بسام البقعاوي إلى أن من أسباب قصور وخلل التنمية الإنفاق الحكومي الحالي حيث إنه متمحور حول البنية التحتية حاليًّا بشكل أساسي مما يؤثِّر على الاقتصاد المحلي من خلال مدخلين: الأول مدخل مباشر سريع حيث تصب السيولة الحديثة في شريان الاقتصاد من خلال إعادة إنفاق المقاولين لريع عقود المقاولات في جوانب أخرى من الاقتصاد المحلي بواسطة العمالة بشكل رئيس والمواد الخام ومورديها والذين هم بالتالي من المفترض أنهَّم يستخدمون العمالة المحليَّة أيْضًا، ولكن هذا ضعيف إن لم يكن مفقودًا في اقتصادنا المحلي بسبب استخدام العمالة الوافدة أو الاستيراد من الخارج للمواد والمدخلات الإنشائية، هذا بالإضافة إلى التعاقدات الخارجيَّة مع المقاولين الأجانب. وأشار إلى أن ذلك يُؤدِّي إلى تصريف السيولة الحديثة إلى الخارج أو إلى البنوك في حسابات مصرفية تتضخم من دون رغبة من البنوك المحليَّة في المبادرة وزيادة الإقراض المحلي الاستثماري التوسعي (أعمال حديثة أو مؤسسات صغيرة)، وعليه يكون الأثر السريع مفقودًا، أما المدخل الثاني لتنمية الاقتصاد المحلي والطويل المدى يعتمد على اكتمال المشروعات الإنشائية الكبيرة ومشروعات البنية الضخمة التي هي من المفترض أن تزيد من حجم الاقتصاد الكلي بواسطة توسع النشاطات الحالية للأعمال القائمة أو تتسبب في خلق بيئة ممتازة لنشوء وارتقاء أعمال ونشاطات جديدة وهذا كلّّه يُؤدِّي إلى خلق المزيد من الوظائف في الاقتصاد المحلي، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت طويل وعوامل أخرى مساعدة ليتحقق النمو وبالمستوى المطلوب ولن نرى ذلك في المدى القريب ونحتاج عدَّة سنوات لتظهر بوادر هذا المدخل. وتطرَّق البقعاوي إلى سبب آخر وهو الحرص على مراقبه الإنفاق الحكومي الاستثماري والتأكَّد من أبعاده عن الجوانب الاستهلاكية الاستيرادية، وهذا غير واضح في إنفاق الباب الثالث التشغيلي للقطاع العام أو الباب الرابع الإنشائي. أيْضًا من أسباب الخلل الإنفاق الحكومي على المواطنين في إعادة تأهيلهم وتطويرهم يحتاج إلى المزيد من الوقت ليعطي أكله، حيث لا بُدَّ من الانتظار حتَّى تدخل القوة العاملة الجديدة سوق العمل وتبدأ في الإنتاج المحلي. من جهة أخرى عزا رئيس اللجنة الصناعيَّة بالغرفة التجاريَّة الصناعيَّة بالمنطقة الشرقية سلمان الجشي خلل قصور التنمية إلى الخطة الموحدة حيث قال: لا توجد خطة موحدة ولأن وزارة الاقتصاد والتخطيط لم تقم بالدور المأمول والمتوقع منها. منوهًا إلى أنّه يجب العمل على تفعيل دورها الحقيقي وتوفير كل العوامل المحققة لمدخلات الخطة. وأوضح أن الإنفاق مكون من مكونات الخطة وبالتالي فالإنفاق غير المرتبط بخطة لن يحقِّق المأمول. وأضاف الجشي أن المملكة بحاجة إلى تنويع مصادر الدخل لأن إيرادات الدَّوْلة في العام 2012 أتى من النفط فقط وبنسبة 93 في المئة من إجمالي الإيرادات. وبالتالي تأتي الأَهمِّيّة القصوى لتنويع مصادر الدخل التي تعتمد على الصناعة وتنوعها بشكل أساسي كخيار، لكن لوجود جهات كثيرة أسهمت في أن تتداخل أدوارها في بناء مستقبل المملكة الاقتصادي. مشددًا على أن الوصول إلى تنمية مستدامة يجب أن نقابله باتِّخاذ خطوات عملية وواقعية مثالية من منطلق دعم الاقتصاد وقيامه ورقيه، فلا يمكن لأيِّ دولة أن تكون ذات اقتصاد قوي دون صناعة وإن اختلفت مجالاتها، فهي تُعدُّ الخيار الوحيد لنا، ومن الأولى تطويرها ودعمها، وزيادة الاهتمام بها، وفي اعتقادي لن يتحقَّق ذلك إلا بتوحيد الأدوار والجهود.