أتابع الصراعات السياسية بين أوباما وبين الحزب الجمهوري في أمريكا، فالجمهوريون يقاومون كل مشروع إصلاحي تقدم به الرئيس الأمريكي سواء في الصحة أو التعليم أو السياسة الخارجية أو غيرها، حتى عادت اليوم بين الجمهوريين دعوات رفض رفع سقف الدين الحكومي لإحباط هذه المشاريع من أجل إظهار فشل أوباما والحزب الديمقراطي. وقد بدأ الإعلام الأمريكي يتحدث عن هذا الاتجاه الذي غلب المصالح السياسية الخاصة على المصالح الوطنية، منذ تولي أوباما الرئاسة الأمريكية. ومن متابعتي لهذه الصراعات هنا والصراعات الفكرية والإصلاحية في العالم العربي ظهر لي سؤال طرح نفسه. من الذي يُشكل فكرة مقاومة الإصلاح والتجديد في المجتمعات البشرية، أهو الشارع أم النخب الفكرية والقيادية؟ في جميع الأمم قديمها وحديثها- أكانت ديمقراطية أم لم تكن- يكون تجديد نظام عتيق قد تعارف الناس على هجرانه أو إصلاح أمر قائم أتفق العقلاء على حتمية إصلاحه، أمراً في غاية الصعوبة نظراً لمقاومة الشارع لهذا الإصلاح والتجديد. ففي النظم الديمقراطية يتحجج ممثلو الشعب بأن رفض التجديد أو التغيير هي مطالب من يمثلونهم، وفي المجتمعات غير الديمقراطية يتعذر مسؤولوها بأن الوضع القائم هو رغبة مجتمعاتهم. (وتحديد مفهوم الشارع والنخب الفكرية والقيادية هنا في هذا المقال هو أن الشارع يمثله كل من لا يفهم خلفيات وحقيقة الموضوع المطروح للإصلاح، بغض النظر عن كونه قيادياً أو مفكراً. والمقصود بالنخب الفكرية والقيادية هنا في هذا المقال هو كل من مُنظر أو مسئول عن الموضوع المراد تجديده وإصلاحه). والمتأمل في نقاشات الشارع يجدها لا تتجاوز أن تكون صدى يكرر الطرح نفسه الذي يطرحه النخب الفكرية والقيادية التي تدير الوضع القائم وترفض إصلاحه. وتجد هذه النقاشات تدور حول العموميات وتجعل من الأمر المتفق عليه -كتوفير الصحة والتعليم مثلاً- هو موضوع الخلاف وأن توفيرهما أمر واجب، وتضيع النقاشات في الحديث عن أهمية توفير - الصحة والتعليم مثلاً- وليس عن موضوع إصلاح التعليم والصحة مثلاً. وهذه النخب الفكرية والقيادية هي التي اشتهرت بين أفراد الشارع بخبرتها ومعرفتها في هذا الموضوع. والإنسان يميل عادة إلى قبول رأي من اعتاد عليه ممثلاً وقائماً بهذا الموضوع بغض النظر عن فهم معطيات رأيه وصحة حجته. ومن هنا تأتي مشكلة الإصلاح والتجديد في المجتمعات والأنظمة: هي بيروقراطية ولكنها ليست حكومية ولكنها إنسانية اجتماعية. فهذه النخب الفكرية والقيادية لها تأثير قوي على فكر المجتمع في قبول الوضع القائم لا في فهمه. وهذه النخب ترفض الإصلاح والتجديد - خصوصاً إذا جاء من خارج محيطها- لأسباب عدة. فمنها، أن هذه النخب لا تريد أن تظهر بمظهر المُلام في الوضع القائم الذي وجب إصلاحه. كما أن هذه النخب تكون عادة قد قضت حياتها في هذا الموضوع بهذه الطريقة وبهذا التفكير، فلا تستطيع أن تفهم أو تتصور كيف يمكن إدخال الإصلاح والتجديد عليه. كما أنه قد يكون - كالوضع في أمريكا اليوم مثلاً - مصالح سياسية أو تجارية تجعل هذه النخب تقاوم الإصلاح والتجديد. ولذا فإني أعتقد أن الذي يعوق الإصلاح والتجديد في المجتمعات البشرية هي النخب الفكرية والقيادية وليس الشارع، فالشارع تبع لها. وهنا تأتي محاولة الإجابة عن السؤال «أيهما أنسب بيئة للإصلاح... الديمقراطية أم غيرها»؟ هذا سؤال صعب والإجابة عليه منضبطة تماماً. فهذا الغرب قد قطع شوطاً واسعاً في الإصلاحات ولكنها تسير ببطء، كوضع السود مثلاً ووضع الصحة والتعليم المتعثر في أمريكا اليوم. وهذا الرئيس التركي يعجز عن تقديم أي إصلاح ديني في تركيا. بينما رأينا إصلاحات عظيمة سريعة في بعض المجتمعات غير الديمقراطية، كما حصل في الدولة السعودية على يد المؤسس الأول الملك عبد العزيز رحمه الله، وكحال دبي مثلاً. ولكن هناك عائق عظيم للإصلاحات في المجتمعات غير الديمقراطية لا يوجد في المجتمعات الديمقراطية. فالمجتمعات الديمقراطية يغلب عليها أن تكون مجتمعات قوية لا تلجأ إلى التخوين والطعن في وطنية المصلحين والمجددين، ولم نر أحداً من الجمهوريين يطعن في وطنية أوباما أو يخونه رغم العداء والكره الشديدين منهم له. بينما في المجتمعات غير الديمقراطية ترى أن أول سلاح يستخدمه المقاوم للإصلاح والتجديد هو تخوين من يدعو للإصلاح واتهام وطنيته. وهذا سلاح فعال وقوي. فتهمة خيانة الأوطان والمعتقدات تهمة عظيمة تقعد بهمة الهميم وترضخ عزيمة القوي. ومن الأمثلة الحقيقة الواسعة لقصة الإصلاح والتجديد، والتخوين للأوطان والمعتقدات قصة الخلافة العثمانية. فالعثمانيون تبنوا فكرة الخلافة الإسلامية، ثم مارسوا أدوات منع التفكير حولها، فأهملوا العلم وكبتوا الفكر. وكل فكرة إصلاحية لنظام الخلافة كانت تتهم بالخيانة الوطنية والعقائدية. وكانت تقاوم بحجة أن هذه هي سر قوة العثمانيين وهي التي فتحت بها قسطنطينية وسادت بها الدولة العثمانية. فضاعت دعوة الإصلاحيين - الذين لم يدعوا إلى نبذ الخلافة بل إلى تصحيح ما طرأ عليها من تجاوزات وتجديد أنظمتها بما يلائم تغيرات الزمان-، مقابل حجج تتعلق بتاريخ مضى وواقع تغير، فلم يقدموا شيئاً من الإصلاح والتجديد لنظام الخلافة حتى جاء من أسقط الخلافة وأنهى الدولة العثمانية بسقوط الخلافة. وقصة الإصلاح والتجديد في المجتمعات كقصة رجل عظيم بنى صناعة عظيمة نفعت الناس وأسست مجداً لأبنائه وقومه. وعظمة الرجل وقوة صناعته في زمانه جعل أبناءه لا يحركون ساكناً فيها ولا متغيراً. وتغير الزمان وتغيرت حاجات الناس وظهرت صناعات منافسة والأبناء محافظون على صناعة أبيهم بكل تفاصيلها التطبيقية الدقيقة. فظهر من الأبناء من يدعو إلى إصلاح الصناعة وتجديدها لتبقى قائدة وتاجاً في الصناعات. فهنا اختلف الأبناء. فمنهم العاطفي الذي لا يريد مساساً بإرث أبيهم، ومنهم من خشى الملامة وهو يدرك حاجة الإصلاح فآثر نفسه على صناعة أبيهم. ومنهم المستنفع من الوضع ومنهم العاجز ومنهم الضعيف الذي يخشى المواجهة. وهذا الخلاف بين أبناء الرجل لا يظهر للشارع، ولذا فالشارع هنا سيكون تبعاً لما هو ظاهر على قبول وضع الصناعة القائم لعدم علمه بالخلفيات والمعطيات والمخاطر المحدقة بها. وهكذا عاشت وقويت شركات وعائلات تجارية في دول العالم وهكذا اضمحل غيرها وانتهى، وهذه قصة المجتمعات البشرية. [email protected] تويتر@hamzaalsalem