في يوم الأربعاء الأول من رمضان عام 1434ه وحين كانت الفرحة لا تسع كل مسلم ومسلمة بقدوم شهر الخير والبركات شهر المغفرة والرحمات، فجعنا بوفاة أغلى من سكن قلوبنا من الأهل والأحباب وتاج رؤوسنا وعزنا، عمود البيت العامر بوجوده، لقد رحل والدي الشيخ عبدالله بن محمد آل ثنيان بكل صمت، تماما كما عاش حياته مكافحا بصمت. كان للمصيبة وقع شديد لم يكد يتحمله الفؤاد، ولكن المؤمن أمره كله خير، والخير هنا يكمن في الإيمان بالقدر والقضاء والصبر على الشدائد والبلاء، فله سبحانه وتعالى ما أعطى وله ما أخذ و(إنا لله وإنا إليه راجعون). والدي وحبيب قلبي وإكليل حياتي كم كنت شريفا عفيفا تأبى كل ما لا يرضي الله، وكم سعيت جاهدا لتربيتنا التربية الصالحة وتعليمنا العلم النافع، وكم غرست في أنفسنا حب العلم وإجلال العلماء، وكم منحتنا من حب وعطف وحنان، وكم تنبأت بصفحات وجوهنا لتعلم خفايا نفوسنا من ضيق أو هم أو سرور وحبور، لتسعى للتخفيف عنا وحل كل ما يؤرقنا، أو مشاركتنا فرحنا وسعادتنا، كنت ولا زلت قدوتي التي سأقتدي بها ما حييت في حب العلم والصبر والعصامية والنضال لأجل تحقيق الهدف السامق. يا تاج رأٍسي المكلل في كل كياني بل في كل فرد من أفراد عائلتي وفي كل أروقة المنزل الذي يئنّ لفقدك، كم كنت تكرر على مسامعنا - نحن أبناؤك - أنك تريدنا أن نحقق فوق ما تطمح إليه، ليس لمجرد المفاخرة، بل كان ذلك نابعا من عمق محبتك لنا وإخلاصك في تربيتنا ورعايتنا. عهدناك أيها الأثير على القلوب محبا للجميع، واصلا لرحمك، لا تعرف كل مصطلحات الكراهية والبغض فهي لم تدون في قواميس حياتك التي رحلت عنها فتركتها تنضح صفاء ونقاء بعاطر سيرتك. والناس كلهم لفقدك واجد في كل بيت رنة وزفير في بيتنا الكبير - بيت بابا عبدالله كما يسميه أحفادك - كلما دخلت البيت لمحت مكان جلوسك وتناهت إلى مسامعي أصداء ضحكاتك مع الصغار والكبار، وفنجان قهوتك الكبير حيث مشروبك المفضل، وكلماتك التي تعبر فيها دوما عن رضاك عن رفيقة دربك والدتي الحبيبة أطال الله في عمرها، وعنا نحن ضناك بنين وبنات. وكأني بالبيت كله بكل جنباته وأروقته يحن حنين المشتاق لحبيبه، فلقد أصبحت كل زاوية من حنايا البيت الكبير ساكنة حزينة. ومع أن المصاب جلل والفراق مرير ووداعك مستحيل إلا أننا لا نملك لك يا أبي يا قطعة من قلبي إلا الدعاء ونسأله أن يعيننا على أن نكون كما أردتنا وتريدنا على طاعة الله ورضوانه. في عيد هذا العام كتبت (عيد بأي حال عدت يا عيد بفقد أب أم بقلب فيك مكلوم) حاولت افتعال البهجة لكن القلب أبى، حاولت رسم البسمة لكن الحزن طغى، فما علمت قبل موتك أن النجوم في التراب تغور. وهلال أيام مضى لم يستدر بدراً ولم يمهل إلى الأسحار عجل الخسوف إليه قبل أوانه فمحاه قبل مظنة الإبدار واستُل من أترابه ولداته كالمقلة استُلت من الأشفار فكأن قلبي قبره وكأنه في طيّه سر من الأسرار إن الكواكب في علو مكانها لتُرى صغاراً وهي غير صغار اللهم ارحم والدي واغفر له ويمّن كتابه ويسر حسابه واجعل قبره روضة من رياض الجنة وأسكنه الفردوس الأعلى وأنعم عليه ببشرى الوفود مع باب الريان إذ كان صائما، واجمعنا معه في جناتك جنات النعيم أحبابا على سرر متقابلين يا رب العالمين. د. هند بنت عبدالله آل ثنيان - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن