كم هو مسكينٌ ومظلومٌ لبنان.. هذا الذي يحاول، منذ أن عرفنا الدنيا، أن يكون أجمل مكان على وجه الكرة الأرضية -وليس من جهة الشرق الأوسط وحدها- فكل شبر فيه يريد أن يكون جميلاً ولكنّ ظروفه البائسة، التي وضعته منذ الأزل مجاوراً للدول الأكثر اشتعالاً في المنطقة، جعلت منه مكاناً مخيفاً في أغلب الأحوال..! (مهرجانات مدينة الشمس، بعلبك، تهجر مسارحها الأثرية بحثاً عن الأمان).. عنوان ملفت يمزج بين الأسى والإعجاب، فهي مأساة من جهة أن تنطفئ شعلة المهرجان الفني الأقدم والأشهر في منطقة الشرق الأوسط (مهرجان بعلبك) عن مدينة الشمس، وهذا ما لم يحدث له في تاريخه الممتد منذ الخمسينيات الميلادية سوى مرتين، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت عام 1975 فتوقف المهرجان 22 عاماً ليعاود انطلاقته في العام 1997 ولم يتوقف بعدها إلا أثناء الحرب غير المتكافئة التي افتعلها ما يسمى بحزب الله مع جيش إسرائيل عام 2006؛ أما ما يثير الإعجاب في الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً، فهو الإصرار الرائع من اللجان المسؤولة عن مهرجان بعلبك، على إقامة فعاليات المهرجان هذا العام، حتى لو تحوّل مكانه إلى مكان آخر داخل العاصمة اللبنانية بيروت، وهذا يحدث للمرة الأولى بشكل استثنائيّ هذا العام، مع وصول الأحداث في مدينة بعلبك القريبة من المناطق التي تدور فيها الحرب الشرسة بين السوريين إلى تعرض مدينة الشمس للقصف أكثر من مرة خلال الفترة الأخيرة، الشيء الذي يعني استحالة أن تكون مدينة بعلبك- ذات التاريخ العريق - مكاناً آمناً لإقامة المهرجان الفنيّ الشهير. الحالة نفسها، في صيف هذا العام، تحدث مع مهرجانات أخرى مشهورة في لبنان، مثل مهرجانات طرابلس المجاورة لسوريا من شمال لبنان، ومهرجانات صور وبيت الدين وبيبلوس وغيرها من المهرجانات التي تقام عادة في مناطقها الساحلية أو الجبلية المتميزة من لبنان، بحكم المواقع التاريخية هناك والطبيعية الجغرافية المناسبة جداً للأجواء الاحتفالية والفنية العالمية، غير أن النزاع السوري المتاخم لها- أو المتشابك بها - والمقار الحزبية المتمركزة في بعضها،والاحتقانُ الواصل حدَّ الذروة بين صفوف جميع الأطراف التي اعتادت تصفية حساباتها والمتاجرة بأسلحتها وضحاياها على أرض لبنان المسالم دائماً.. كل ذلك قد يجعل كل تلك المهرجانات الفنية المحفورة في وجدان الذائقة الإبداعية للعالم كله تهاجر من أماكنها التاريخية الأثرية لتتكدس جميعها في العاصمة المزدحمة بيروت، وتنحصر داخل قاعات مغلقة - أو مسطحة - لا أظنها ستكون أكثر أماناً من تلك القلاع. وقد صرّحت إدارات جميع مهرجانات لبنان مؤخراً، أنهم سيقيمون مهرجاناتهم وهم على يقين أن أحداً من خارج لبنان لن يحضرها، ولن يكون لها من جمهور هذا العام سوى أهالي لبنان وحدهم، فالكل على حذر مما يحدث هناك، ومعظم الدول قد أصدرت تحذيرات لمواطنيها بعدم الذهاب إلى لبنان إلاّ للضرورة.. ومع كل ذلك.. يصرُّ المبدعون في لبنان على استمرارية قيام مهرجاناتهم المعروفة بأسماء مواقعها، ودعوة فنانين عالميين للمشاركة فيها - كما اعتادت هذه المهرجانات أن تكون عالمية - مع تغيير في أماكنها، فرضته الأحداث التي لن تثنيهم عن القول بأن هناك لا يزال لبنان حاضراً بكل وجوهه الفنية والثقافية والحضارية، مؤكِّدين أن ثمة فسحة من الأمل لا بدّ أن تبقى جميلة في أعين وقلوب الناس، وتتجدد من أجلهم وأجل لبنان كلَّ عام.. وأعود بالحديث إلى (مهرجان بعلبك) متسائلاً: هل يستطيع أحدٌ أن ينسى الحفلات الغنائية - الرحبانية - التي كانت تصدح بها (فيروز) من على أرض مدينة الشمس (بعلبك) لتصل إلى الناس في كل مكان؟ هل انتهت تلك الأزمنة، وصار رؤساء الأحزاب والميليشيات وقادة الجيوش وزعماء التيارات هم نجوم المسارح كلها..؟! ))) وتبقى، من أجمل ما غنت السيدة فيروز، على مسرح مهرجان بعلبك التاريخي داخل القلعة الرومانية الأثرية، من كلمات وألحان الأخوين رحباني، رائعة: (يا قلبي لا تتعب قلبك وبحبك على طول بحبك بتروح كتير.. وتغيب كتير.. وبترجع ع أدراج بعلبك يا قلبي لا تتعب قلبك..) [email protected] الرياض