مر زمن لم ينشغل فيه المودعون بمصير ودائعهم. فالاستقرار المالي؛ والازدهار الاقتصادي أبعد شبح خسارة المودعين أموالهم بسبب إفلاس المصارف؛ أو تعثر الأنظمة المالية العالمية. منذ العام 2008 والنظام المالي الغربي لا يُحسن الوقوف دون مساعدة؛ بدء من أزمة الرهون العقارية؛ وإفلاس المصارف الأميركية وشركات التأمين؛ مرورا بأزمة الديون السيادية الأوربية؛ وتضخم الدين العام الأميركي؛ وانتهاء بمصادرة أرصدة عملاء المصارف القبرصية بذريعة معالجة أوضاع البنوك. كشفت خطة الإنقاذ القبرصية عن خطر فقدان أصحاب الودائع ودائعهم؛ أو جزءاً منها من أجل معالجة مشكلات القطاع المصرفي؛ وهو الخطر الذي حاول المودعون تجاهله حتى تفاجؤوا به. مصادرة الأموال غير مرتبطة بالودائع المصرفية فحسب؛ بل ربما تجاوزتها إلى السندات الحكومية التي قد تُشطب فوائدها؛ أو جزء من قيمها الأصلية في الأزمات المالية؛ وأحسب أن الأزمة الأميركية؛ القادمة لا محالة؛ ربما كانت مسرحا لها. وزير المالية القبرصي ميكاليس ساريس، ذكر «أن المودعين في قبرص، ممن تبلغ قيمة مدخراتهم أكثر من 100 ألف يورو، قد يواجهون خسائرَ تصل إلى نحو 60%، كنتيجة مباشرة للشروط القاسية لصفقة الإنقاذ الدولية»؛ خطة الإنقاذ القبرصية مرشحة للاستنساخ في بعض الدول الأوربية التي تعاني من مشكلات مالية؛ ما قد يتسبب في مخاطر إضافية للقطاعات المصرفية المتضررة في حال سحب المودعون ودائعهم حماية لها من المصادرة. ما حدث للمودعين في قبرص؛ وربما بعض الدول الأوربية مستقبلا؛ سيحدث لا محالة لحملة السندات الأميركية حين إعلان أميركا عجزها عن السداد؛ وهو أمر يستبعده جميع الخبراء والمختصين ووزراء المال؛ إلا أن إمكانية حدوثه قائمة؛ فالأزمات المالية أشبه بالسرطان المدمر الذي يتجاوب مع العلاج مؤقتا ثم ينتكس ويفتك بالجسم؛ وأزمة الديون الأمريكية لا تقل خطرا عن أزمة الديون الأوربية؛ بل تفوقها بكثير وإن لم تطف على السطح. خطة الإنقاذ القبرصية دقت ناقوس الخطر لودائع واستثمارات السعوديين؛ والقطاع المصرفي؛ والمؤسسات الحكومية في الخارج؛ فعنصر الأمان الذي يبحث عنه المودعون والمستثمرون في البنوك الأوربية والأميركية لم يعد متاحاً حاليا. ممارسة السرقة المكشوفة بمسميات عصرية؛ باتت ديدن القطاعات المالية الغربية؛ وهو ما يستوجب التحوط من مخاطر وتداعيات الأزمات المالية. «مصائب قوم عند قوم فوائد» وفوائدنا من الأزمة القبرصية ربما تظهر في جانبين رئيسين؛ الأول تنبيه المودعين السعوديين بالمخاطر المتوقع مواجهتها مستقبلا مع تداعيات الأزمة الأوربية؛ والثاني توقع عودة الأموال المهاجرة لأسباب أمنية؛ إلا أن تلك العودة المتوقعة تحتاج إلى تحفيز أكبر من قبل الجهات المسؤولة وعلى رأسها الجهات ذات العلاقة بالاستثمارات المالية. الهيئة العامة للاستثمار ربما نجحت في استثمار الموقف؛ لجذب الاستثمارات السعودية المهاجرة من خلال طرح مبادرات استثمارية ومشروعات يمكن تمويلها برؤوس الأموال المهاجرة؛ والباحثة عن الفرص الجاذبة والآمنة؛ خلق فرص استثمارية جديدة ستحقق للمستثمرين الربح والأمان؛ وللوطن التنمية. هيئة السوق المالية قادرة على تطوير سوق الصكوك والسندات بما يساعد على جذب الاستثمارات المالية وإعادة تمويلها للمشروعات الوطنية الطموحة؛ تنشيط السوق وتثقيف المستثمرين بإيجابياتها سيسهم في استيعاب بعض رؤوس الأموال المهاجرة. ملاءة البنوك السعودية لا تمكنها من تمويل المشروعات الوطنية الضخمة كالطاقة؛ والنفط؛ والبتروكيماويات؛ فلماذا لا تُستغل الأموال المهاجرة في التمويل المحلي بما يحقق الكفاءة الاستثمارية والأمان. الصناديق الحكومية ربما احتاجت لمراجعة حجم استثماراتها في السندات الغربية؛ وبما يحقق التوازن بين الاحتياجات المحلية والتحوط من جهة؛ وبين الالتزامات السياسية التي لا يمكن إغفالها. استثمار جزء من الاحتياطيات الحكومية في الداخل لتوسيع قاعدة الإنتاج سيحقق الكفاءة الاستثمارية؛ الأمان؛ التنمية؛ وتنويع مصادر الدخل وخلق مزيد من الوظائف. العاقل من اتعظ بغيره؛ وأحسب أننا أكثر حاجة للاستفادة من العِظَة المجانية التي قدمتها لنا خطة الإنقاذ القبرصية؛ فهل نحن متعظون؟ [email protected]