كانت وشوشة من بعيد، فرّت من بين شفاه أحدهم، طارت تلك الكلمات خفيفة على اللسان ثقيلة في ميزان نفسه، حلقت بعيدا ثم حلقت وكأنها تأبى أن تستقر في عقر دار أذنيه لئلا توجعه أو تزيد آلامه وهواجسه وظنونه في نفسه وفي مجتمعه وفي الناس أجمعين، كان يراهم حين هم بالدخول إلى المقهى، كانوا ثلاثة واقفين يتهامسون، يتناكزون، يتساخرون بطريقة خفية مكشوفة حين رأوه، خفضوا أصواتهم حين اقترب منهم، لم يكن يعلم أنه المقصود بسخريتهم المرة القاتلة التي تبدلت إلى تحايا تجارية مستهلكة عابرة لا تتجاوز حدود المجاملات الكاذبة حتى عبرَهم وذهب عنهم غير بعيد في ذلك المقهى الأنيق المخملي ذي الرونق والبريق، لم يعلموا أنه غير بعيد، فما يفصله عن أحاديثهم الساخرة منه سوى حاجز خشبي يحجز الذوات ولا يحجب الأصوات؛ سقطت على أذنيه تلك الكلمات الساخرة المرة كالصخرة الصماء الصلدة الغاضبة المتحدرة من علٍ، وقعت منه موقع الرمح من الخاصرة أو الخنجر من العلقة: تراه سبهة! مغفل، غبي ويحسب نفسه ذكي! دارت به الدنيا دورة ثم دورة ثم دورة ولم يصح إلا وصديقه الوفي أحمد يربت على كتفيه ويصحيه من غفلته وسرحانه مستنكرا عدم قيامه لتحيته كما اعتاد منه حين يلقاه كل مرة مستقبلا إياه بالأحضان ومغدقا عليه بكلمات الترحيب وعبارات الاشتياق والمحبة؛ اجلس يا صديقي؛ أود أن أسألك: كيف تراني؟! هل أنا سبهة والا مغفل؟! أجابه صديقه: حاشاك! إيه يا أحمد أنت تقول هذا وأنا أعلم أنني لست كما يفهمني أحد الثلاثة الذين مررت بجانبهم قبل أن تدهمني وتقطع خلوتي مع نفسي التي كنت أحسبها زمنا مفتوحا بلا حدود ولا قيود، فقد حلقت وطرت في الفضاء أناجي نفسي، وأحدثها حديث المحب المشفق عليها لأخلص منها بقرار إما أن أعدلها إن كانت مائلة كل الميل، وإلا فلتدعني ولأكن كما هم، لأكن مثلهم؛ لأغدو بهلوانيا فهلوانيا لعوبا متصيدا انتهازيا متلونا متلبسا لكل حالة لبوسها، متقلبا بين الناس والموائد والمكاتب والصوالين، مجاملا هذا وكاذبا على ذاك ومتقولا على فلان وناقلا عن علان، ومزينا الشائن، ومقبحا الجميل؛ ليرضى عني من يرغب في إنكار المحاسن وإبدالها بالمساوئ، ولن أجد عسرا في اصطناع هذه الشخصية الفهلوية اللعوبة المخادعة؛ بل سأجد الأمر أيسر مما يزعمه من اتهمني بالتغفيل وطارت كلماته على غير قصد منه إلى مسمعي، فالمشقة الحقيقية هي ألا أكون كذلك، العسر على النفس أن أزجرها وأحجزها أن تكون متلافة لقيمة أخلاقية سامية، وليس العسر أن أدعها على سجيتها تعيث في الناس فسادا وفي المواقف تزييفا؛ فما أسهل الانحدار وما أشق الصعود إلى القمم! وكأنما صحا من غفلة طويلة سارحة مارحة وراء خيالاته في عوالمه الخاصة، ولم يشعر أن صديقه أحمد يحاصره بنظراته المتأملة المبتسمة الحائرة ولكن كلماته المحبة أيقظته: وينك سارح يا عزيزي؟ عد إلي! سأعود إليك أيها الصديق الحميم، ولكنني متعب، متعب بنفسي وبالناس وبتغير المفهومات وتقلب المواقف واختلاف الموازين. فهذا الذي يتهمني يا صديقي بأنني سبهة ومغفل؛ ذلك الذي مررت بجانبه قبل قليل شريك معي في العمل كما تعلم وصل إلى ما وصل إليه بمهارته العالية في تقمص شخصيات عدة وارتداء أقنعة مختلفة لكل حالة؛ فهو اليوم مع طبقة من الناس محافظة سيد المحافظين الحريصين على عدم المساس بقيم المجتمع وأخلاقياته؛ بل يبالغ في اصطناع شخصية المتدين الملتزم بأدق التفاصيل إلى حد الغلو، وهو غدا مع طبقة أخرى تخالف من كان معهم بالأمس سيد الدعاة إلى التنوير والانفتاح والتمرد على معوقات التحديث على غير وعي دقيق منه بقضايا التنوير، وإنما هي عبارات تترامى إلى مسمعيه من محيطه في العمل فيرددها كالببغاء، وهو مع وزيره ومديره ومرجعه في عمله الخادم المطيع المتزلف المادح، ومع الناقدين في محفل آخر الناقم المنقلب القادح! لن أكون ذلك أبدا حتى لو لم أجد إلا كسرة خبز ناشفة على قدح من الشاي هي وجبتي كل يوم! لن أكون أبدا إلا هذا الغبي النقي الشقي بنفسه ذا الوجه الواحد والشخصية الواحدة؛ مهما غلا الزمن في تقريب الفهلوي وحربه على السبهات أمثالي! أيها النادل اللطيف الخفيف: تعال، هات لي قدحا من اللاتيه يطفئ هذا اللظى الذى أكاد أحترق به! [email protected] mALowein@