سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الارتفاعات المتتالية لأسعار النفط على مدى 40 عاما تجهض الحديث عن المخاوف الموازنة السعودية تفند إدعاء «النقد» باعتماد دول المجلس على فرضية الدخل الدائم
تنظر تقارير المنظمات الدولية دائما بعين الانتقاد لاقتصاديات الدول الصاعدة أو النامية، وتعتبر أن سياساتها غير منضبطة وتشهد تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كثيرا على ذلك .. وفي الوقت الحالي وبعد مرور أكثر من عشرين عاما على تبني العديد من الدول النامية لسياسات الإصلاح الاقتصادي والتعديل الهيلكي التي فرضها صندوق النقد على كثير من الدول النامية خلال التسعينات.. بات واضحا أن هذه السياسات لعبت دورا بشكل أو بآخر -هي ذاتها- في إضفاء خلل إضافي، وربما فقدان البنية الاقتصادية في كثير منها .. وحتى وإن لم يكن لها دور في الخلل في بعضا من الدول التي تبنت سياسات صندوق النقد ، إلا أن توصيات الصندوق لم تؤدي إلى نجاح التنمية في اقتصاديات هذه الدول عموما. وبعض الدراسات الصادرة مؤخرا بدأت تمحص مدى دور السياسات الاقتصادية التي يوصي بها الصندوق في تشتت السياسات المالية والنقدية للعديد من الدول التي توجد فيها تدخلات للصندوق..ونشير إلى الخلل في تطبيق هذه السياسات الاقتصادية المستوردة في بيئات اقتصادية غير مهيئة، فالسياسة الاقتصادية التي تنجح في دولة معينة ليس حتما أن تحرز نفس النجاح في بيئات اقتصادية أخرى..فالخصخصة مثلا تسببت في نجاح بعض الدول، في حين تسببت في تعميق مشكلات دولا أخرى. وقد صدر مؤخرا تقرير صندوق النقد حول آفاق الاقتصاد الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا عن نوفمبر 2012م، ويعتبر من التقارير التي تنظر بتحفظ لاقتصاديات الدول المصدرة للنفط عموما .. وقد لمح التقرير إلى بعض الجوانب الهامة المرتبطة باعتماد دول الخليج تحديدا في بناء موازاتها على فرضية الدخل الدائم. فما هي فرضية الدخل الدائم ؟ وهل تسبب قلقا حقيقيا ؟ وهل فعلا ينبغي على دول المجلس التعامل بحذر أكثر شدة مع إيراداتها النفطية ؟ وهل أسعار النفط فعلا من المتوقع انحدارها أو سقوطها في أي وقت بشكل يمكن أن يتسبب في خلل عميق في موازنات دول مجلس التعاون ومنها المملكة ؟ تقييم صندوق النقد لسياسات دول الخليج امتدح تقرير صندوق النقد الصادر مؤخرا دول المجلس في سياساتها الاقتصادية التي تبنتها خلال فترة الأزمة المالية 2008-2009م وخاصة أنها نجحت في امتصاص تداعياتها السلبية بدون إحداث أي اضطرابات عميقة في اقتصاداتها .. ويشير التقرير أيضا إلى أن دول النفط نجحت في توظيف الإيرادات النفطية الكبيرة في دعم النمو الاقتصادي لدولها في بيئة عالمية كان يسودها الضعف ..رغم كل هذا المدح، إلا أن التقرير لمح إلى وجود أخطاء في السياسات الاقتصادية لدول المجلس لأنها تتبنى سياسات اقتصادية توسعية قائمة على إنفاق حكومي كبير ومبالغ فيه، وأن هذا الانفاق يقوم على فرضية الدخل الدائم، والتي هي في حد ذاتها فرضية غير صحيحة، لأن النفط مورد غير متجدد ومعرض للنضوب .. بل إن هذه السياسات التوسعية تؤدي إلى تآكل الفوائض المالية، وخاصة في ظل اتساع حيز المالية العامة عن حيز أسعار النفط .. بالتحديد فإن التقرير يشير إلى التحفظ حول السياسات الاقتصادية للدول النفطية، رغم أنه يعترف أن هذه السياسات هي التي جنبت دول الخليج الدخول في ركود اقتصادي، وأبعدتها عن أي خلل اقتصادي غير متوقع. حقيقة مخاوف السقوط والنضوب للنفط تسيطر على سوق النفط سلوكيات عامة ومعروفة ولم يناقشها الباحثون كثيرا، بل صرنا نأخذ بها كمسلمات، وهي أن سلوك سعر النفط هو بمثابة البندول وأنه معرض للسقوط المدوي في أي لحظة وبدون سابق إنذار وأن النفط يمكن أن يشتعل ويتسبب في تلاشي اقتصاديات الدول المعتمدة عليه في غمضة عين .. ولذلك، فإن السياسات الاقتصادية في هذه الدول يجب أن تقوم على التحفظ في تقديرات أسعار النفط، وأنها يجب أن تأخذ في اعتمادها على الدوام أن النفط مورد ناضب وغير دائم .. ومن ثم فإن هذه الدول يجب أن تعترف أن اقتصادياتها هلامية لا تقوم على بناء إنتاجي واقعي. وبالفعل فإن كل الاقتصاديين يحاربون الدول النفطية منذ السبعينات ويعتبرون كل نجاح فيها معرض للتلاشي بنضوب النفط، وكثيرون يخوضون في حساب معدلات النضوب، والبعض يقدرها بأنها تصل للمملكة – كأعلى تقدير- إلى خمسين عاما، وبعدها لا نفط ولا إيرادات نفطية، وستصبح ميزانياتها أقرب للمائة مليار ريال من جديد ، بالطبع كل هذا الكلام من واقع الفرضيات المتشائمة وغير الصحيحة، وذلك للأسباب التالية: أولا : أنه منذ 39 عاما وتأخذ دول الخليج في سياساتها الاقتصادية بفرضية وجود احتمالات قوية بتقلب أسعار النفط، ولكن حتى الآن ورغم حدوث عشرات الأزمات السياسية والاقتصادية، لم ينتكس السعر العالمي للنفط بهذا الشكل المتوقع، بل إنه يسجل ارتفاعا مع كل أزمة عالمية سياسة أو اقتصادية. ثانيا : إنه على مدى 40 عاما ماضية سجل السعر العالمي للنفط اتجاها صعوديا رغم ما تخلله من بعض التراجعات قصيرة المدى، ولكن الاتجاه العام كان صاعدا وبقوة لكي يسجل ارتفاعا من مستوى أقل من 10 دولارات للبرميل ليصل إلى ما بين 15-20 دولاراً في الثمانينات والتسعينات ثم إلى لتتراوح ما بين 25-55 دولاراً خلال الفترة (2000-2005م)، وأخيرا لتقفز فوق المائة دولار منذ 2011م. ثالثا : إن ظهور الدول الصاعدة أو الأعلى نموا والتي لا تمتلك موارد نفطية عَمق من زيادة الطلب على النفط، وبالتالي عَمق من ندرته كمورد محدود، بشكل قوي من خريطة الطلب على النفط، وأخرجه من نطاق الدول المستوردة والمنتجة (مثل الولاياتالمتحدة)، وهذا النطاق كان يمثل التهديد الأكبر في انقطاع الطلب في أي لحظة تنتج فيها هذه الدول المستوردة كميات تعادل طلبها. رابعا : إن ما يثار عن بدائل جديدة للنفط الأحفوري تأكد فشلها حتى الآن، على الأقل تجاريا، وحتى إن نجحت هذه البدائل، فهذا النجاح يرتبط بالدول الصناعية المتقدمة فقط، وبالتالي فيمكن تعويض النقص بالطلب من هذه الدول، بالطلب المتنامي من الدول الأعلى نموا، مثل الهند والصين، والتي يتزايد طلبها على النفط من سنة لأخرى. وحاليا توجد بدائل للنفط ولكن أسعارها وإنتاجها غير تجاري. خامسا : إن دول أمريكا الشمالية هي التي تقود مسيرة بدائل النفط الأحفوري، وهذه الدول تساهم ب 17.8% فقط في صادرات النفط السعودي، في مقابل نسبة صادرات تصل إلى حوالي 60.9% إلى دول آسيوية غير إسلامية، وبالتالي لو افترضنا فقدان دول الخليج للتصدير إلى دول أمريكا الشمالية بالكامل تحت أسوأ الظروف، فإن الإيرادات النفطية الخليجية لن تتأثر سوى بنسب محدودة. سادسا : إن افتراضات سقوط سعر النفط عند حدوث اضطرابات بمناطق الدول المنتجة هو خيار غير صحيح، إلا في حالة تضرر آبار النفط نفسها، بدليل أن الاضطرابات السياسية والعسكرية التي شهدتها منطقة الخليج أدت إلى ارتفاع أسعار النفط وليس انخفاضها. أيضا فإن بنية إنتاج النفط ليست كبنية الصناعات الأخرى، وبالتالي فإنها أقل عرضة للتهديدات، وخاصة أن الدول المستوردة الرئيسية حريصة في الحفاظ عليها. سابعا : ما هو أهم، هو إثارة مخاوف نضوب الموارد النفطية، بالفعل هناك نضوب للنفط في كل دول الخليج، وأن كل برميل يستخرج اليوم إنما يسحب من رصيد الأجيال المستقبلية .. إلا أن هناك تكنولوجيات جديدة يتم اكتشافها يوميا، وهذه التكنولوجيا تؤدي إلى الوصول إلى أعماق لم تكن ممكنة من قبل، وبالتالي فإنها تمكن من ارتفاع رصيد الاحتياطيات في الأرض، وبسهولة فإن التكنولوجيات الجديدة تعوض أو توازن النضوب .. بالعكس لو افترضنا ارتفاع معدل التقدم التكنولوجي عن معدل النضوب، فيمكن أن نتوقع أننا سنويا نصل إلى احتياطيات (وليس نضوب) أعلى. وفي اعتقادي أن الدول الصناعية المستوردة للنفط وتحت اعتبار أنها المالكة الحقيقية لهذه التكنولوجيات أنها تتعمد إخفائها وعدم الإفصاح عنها، وتتعمد في نفس الوقت الحديث عن نضوب الموارد النفطية، لإثارة قلق الدول المنتجة، ويتضح ذلك جليا في السرية الشديدة في التعامل مع تقنيات النفط الجديدة. ثامنا : أنه توجد مناطق كثيرة ومتنوعة لم يتم اكتشافها النفط بها بدول المجلس حتى الآن، وهي تمثل رصيد صافي إضافي يمكن أن يضاف إلى الاحتياطيات الحالية في أي وقت. فرضية الدخل الدائم لقد تمثل الانتقاد الرئيسي لتقرير صندوق النقد الأخير في أخذ دول المجلس بفرضية الدخل الدائم، ودخولها في سياسات اقتصادية توسعية بإنفاق حكومي مبالغ..إلا أن دول المجلس تأخذ بسياسات متحفظة أو شديدة التحفظ في سياساتها المالية، بدليل أن الموازنة السعودية لو أخذت بفرضية الدخل الدائم واعتمدت المستويات الحالية لسعر النفط، لكانت الإيرادات المتوقعة للدولة وصلت إلى أعلى من 1200 مليار ريال لعام 2013م، والتي هي لم تزيد عن 829 مليار ريال فقط. إن تحفظات كثيرة ومخاوف عديدة يثيرها البعض حول احتمالات اضطراب اقتصاديات الدول النفطية، وأن هذه الدول معرضة لتقلبات عنيفة حال تراجعت أسعار النفط، إلا أنه خلال أكثر من 39 عاما منذ الأزمة النفطية الأولى لم تحدث أو تصدق هذه المخاوف..والشاهد أنه حتى خلال فترات الأزمات السياسية أصبحت الأسعار العالمية للنفط تسجل ارتفاعا وليس انخفاضا..إن التخطيط أو التعامل مع هذه الفرضية أمر هام جدا للاقتصاديات الخليجية لأنها تمثل محور التخطيط والسياسة المتحفظة للدولة. ضرورة الحذر في قراءة تقارير المنظمات الدولية من الضروري أن ننوه هنا إلى أمور غاية في الأهمية في قراءة تقارير المنظمات الدولية تحديدا، وهي كما يلي: أولا : أن التقارير الصادرة عن جهات دولية، مثل صندوق النقد ينبغي النظر لها على أنها تقارير معرضة للصح والخطأ، مثلها مثل أي تقارير أخرى محلية أو أجنبية. ثانيا : أنه لا يمكن افتراض صحة هذه التقارير لمجرد أنها تقارير صادرة عن منظمة دولية. ثالثا : أن هذه التقارير لها أهداف سياسية أو أخرى أحيانا، ولا يجب أن تقرأ مجردة. رابعا : أن هذه التقارير تعدها فرق عمل مختلفة ومتنوعة الجنسيات، وليس باحثون منفردون، وبالتالي فإنها معرضة لذات الأخطاء الناتجة عن دراسات فرق العمل، وأهمها التشتت والتعارض، وعدم الانسجام التام في كثير من الأحيان. خامسا : أن هذه التقارير تركز على توجهات معينة قد تتعارض مع توجهات دول الخليج نفسها، مثل تركيزها على عناصر صحة الاقتصاد ككل، في حين أن دول الخليج تركز في مثل هذه الفترات على صحة وضمان الانفاق العام والحركة الاقتصادية .. فما هي أهمية اقتصاد صحيح، ولكن لوطن تتخلله الاضطرابات والمشكلات الاجتماعية على سبيل المثال؟ - مستشار اقتصادي [email protected]