قد يدهش من يعرف أن هذه المدينة الصغيرة، التي جفت على أطرافها دماء المحاربين مطلع القرن الماضي، قبيل توحيد المملكة تحت راية واحدة، تلك المدينة التي كانت بوابة للنزاع بين الجيوش، والتي كان أهلها يمنحون غلالهم للمحاربين، رغماً عنهم، بحثاً عن البقاء والحياة، هي مدينة تمنح الحياة بعد ذلك، بأصوات أئمتها التي لم تعد تحلق فوق رؤوس النخيل العالية فحسب، بل ضجَّت مصحوبة بالسكينة في أودية مكة وشعابها، وفوق رؤوس جبالها. هكذا داهمني تاريخ «البكيرية»، تلك المدينة التي جاء من بيوتها الطينية الوادعة أئمة الحرم المكي، الشيخ عبدالله الخليفي، والشيخ محمد السبيل، والشيخ عمر بن محمد السبيل رحمهم الله، والشيخ عبدالرحمن السديس، هؤلاء الذين توارثوا إمامة الحرم، وقادوا ملايين المصلين على مدى عقود، فقد جاء أولهم الشيخ الخليفي من المسجد التحتي في مدينته البكيرية، وهو أول مسجد فيها، متنقلاً بين الطائفوالمدينةالمنورة، حتى أعجب به مفتي المملكة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ في أواخر الستينيات الهجرية، وطلب منه أن يصبح مساعداً لإمام الحرم الشيخ عبدالظاهر أبو السمح، ثم أصبح إماماً رسمياً للحرم المكي بعد وفاة أبو السمح عام 1373ه، واستمرت إمامة الحرم المكي لأجيال متتالية من أئمة هذه المدينة الصغيرة المحفوفة بالسكينة والطمأنينة. تذكرت كل ذلك، قبل أمس، وقت الصلاة على إمام الحرم الشيخ السبيل، رحمه الله، وهو والد الشيخ عمر السبيل رحمه الله، ووالد الدكتور عبدالعزيز السبيل وكيل وزارة الثقافة والإعلام سابقاً، ومستشار وزير التربية والتعليم حالياً، وقد استبدت بي لحظات طفولة بعيدة جداً، في حي الشميسي، حينما كنا نصلي خلف إمام مسجدنا هناك، وقد كنا نلقبه بالمطوع، وهو محمد السليمان الضالع رحمه الله، زوج خالتي، بينما صوته وطريقة ترتيله تتقاطع كثيراً مع طريقة ترتيل الشيخ السبيل، وكم كانت اللحظات رائعة وقت صلاة العشاء حينما يطيل القراءة، بينما نحن في سرحة المسجد تهب فوق رؤوسنا نسمات الخريف الرائعة. وهل لي أن أنسى الفجر الأبيض البارد في مسجد مزرعتنا في البطين، حينما كان صوت عمّي يرحمه الله، يتلو سورة الطارق، بصوت ثقيل لا يخلو من نبرة ترتيل السبيل أيضاً، وكأنما أثر تلاوة الشيخ قد عمَّت في أبناء جيله، حتى كدنا نظن أنه لا يمكن لنا قراءة القرآن دونما هذه النبرة من التلاوة الناعمة المنسابة بخشوع ويقين. كنت أمشى عائداً إلى المنزل، نعساً، والفجر يتنفس ببطء، ومع صخب الطيور المبتهجة بالبياض، كانت الآيات لا تبرح أذني، حتى أجلس متدثراً قرب النار في مجلس أبي. هكذا رحل هذا الصوت الخاشع الوقور، وذهب إلى مثواه محمولاً على الأعناق، لكن صوته ونبرته الحانية لم تزل تضيء ليلنا ونهارنا، وحينما أقول تضيء فأعني ذلك تماماً، لأن صوته يبرق في الذاكرة.