ذات ليلة عرض علي صديقي أن نتجول في شوارع مدينة عرعر حين قمت بزيارة خاطفة وسريعة إلى هناك، كان الجو في تلك اللحظة المسائية غائما والمطر رذاذ والطقس يميل إلى البرودة بشكل معتدل يبعث في النفس السكينة والخدر والعافية، قلت لصديقي ونحن نمر من جهة السوق لنوقف سيارتنا هنا ونترجل، في تلك اللحظة انشغلت عن صديقي بمرأى البنايات وأصوات الباعة والمتبضعين وحركة السيارات، حاولت التنفس بعمق على إيقاع تلك اللحظة الضاجة بحياة السوق والناس، جاءتني عندها ذكريات الصبا كالظلال المتساقط، حاولت الاهتداء إلى إيقاعها، وأن أمسك نفسي المنشطرة على نفسها بين أن أكون هنا أو هناك، عندما تأخذك الذكريات، كأنك تحتاج إلى ميزان لتزن روحك بين اليقظة والسهو، هي الحياة علمتني وجوب مطارحة الأشياء والتمعن بها، في الركن المقابل شاهدت طفلة بضفيرة شقراء تحمل قفص عصفور وتضحك، وعجوزا يبيع مطارات ماء وفراء وملابس للشتاء الآتي، ورجلا يلاسن آخر، وامرأة تبحث عن فستان عرس فريد لابنتها التي ستزف قريبا، ورغم ضيق المكان، إلا أن الناس تمارس تسوقها بحب ومرح، فجأة أحسست بلفحة هواء تسري في جسدي رسمت حينها قوسا ملوننا أخذني نحو تلك الأشجار التي أينعت وأزهرت على جانبي الطريق، البنايات والشوارع وأضواء النيون بدت مترفة بعد أن غسلها المطر، تأملت كل شيء، أعدت ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح في رأسي وتمر أمام عيني لتستوي الحكاية عندي مثل أحواض الورد التي تغالب العطش والغبار الكثيف، كل ما في عرعر يهزني ويوقظ في الحياة، ويشعرني بعشق كبير، لكن عرعر تحتاج اليوم إلى أن تمايز نفسها عن الآخرين، وإلى محفزات كثيرة كي تتحول إلى مدينة أكثر بهاء وعذوبة ورقة، وأهلها يستطيعون أن يجعلوها كأجمل لوحة ومنحوتة ويعودوا بها إلى زهو الذات لتكتسب ملامح جديدة يرتادها الناس، وتكبر فيها الحياة وتنتشي، وتلوح في سمائها المنجزات الكبار، لتقترب من المنازل العالية، ولتستبين ملامحها وتظهر بشكل جلي، ولكي تخاتل العلو والبهاء والفرح، بعيدا عن قحط الألوان، وقريبا من خيوط القمر، وحتى تكون جزيرة مضيئة، ومركزا للعمل والإبداع والإنتاج وناطحات السحاب، ومكانا لا يخشى الجمال والأناقة، بعيدا عن خلل النكوص والتهاون، فعرعر التي علا عليها بعض الكسل، لا بد لهذا الكسل أن ينجلي سريعا ويولي الدبر، ويجيء الحراك السريع، لتنمو المدينة، وتكبر الشوارع، وتكثر المتاجر، وتتلون الأرصفة، وتتين الحدائق، وتصبح مدينة للمفاجآت، بلا أتربة ولا حفر، فعرعر تحتاج الإفاقة من غيبوبة الحال، لأنها تستحق الحياة البهية، ولا أرى أي مبرر لهذه الندوب التي أراها في وجهها، إن ما يسحر في عرعر أيضا أن أهلها عقلاء أكسبتهم التجارب الحنكة والحكمة والدهاء المميز والبساطة المتناهية، وهم أكثر وعيا وتعلما ولديهم فسحة في الفهم والإدراك والوعي والمخيلة، لذا لا أجامل ولا أبالغ إن قلت «عرعر» ستتغير كثيرا نحو البياض الأنيق الندي البهي. [email protected] ramadanjready @