القاضي المعني هنا هو إياس بن معاوية المزني، وهو الذي يضرب به المثل في الذكاء، والفطنة، ورجاحة العقل، وهو الذي ذكره الشاعر أبو تمام في قصيدته السينية، التي يمتدح فيها أحمد إبن الخليفة المعتصم بالله، حين قال:- إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس ويكفيه تقديراً أن من عينه قاضياً للبصرة، هو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. وفي كتب التراث العربي قصص كثيرة عن ذكائه، وحسن احكامه، سأورد واحدة منها:- كان هناك رجل يتظاهر بالصلاح، بحيث أقنع الكثيرين بأنه أمين، مؤتمن، يمكن أن يتركوا أموالهم عنده إذا سافروا، أو عند دنو أجلهم، كوصيّ على أولادهم. وبالفعل أتاه من أودع مالاً لديه، وعندما عاد المودع، وطلب ماله، أنكر، وجحد ذلك الشخص، فذهب صاحب المال إلى القاضي إياس، وإشتكى له الرجل، فطلب منه القاضي أن يعود إليه غداً، ثم أرسل القاضي بطلب من أنكر أن يأتيه، وعندما جاءه، قال له القاضي بأن لديه أموالاً كثيرة لأيتام ليس لهم وصيّ، وأنه يود إيداعها لديه، وما عليه إلا إحضار رجال أشدّاء بعد يومين لحمل المال. ثم استدعى القاضي المشتكي، وطلب منه أن يذهب إلى صاحبه، ويعاود طلب ماله، وفي حالة إنكاره، أن يهدده برفع الأمر إلى القاضي. وعندما حدث ذلك، تجاوب الرجل، وأعطى المودع حقه، كل ذلك طمعاً في أموال اليتامى، الموجودة لدى القاضي إياس. وعندما عاد الرجل إلى القاضي وبخه، وزجره، وقال له: «بئس الرجل، لقد جعلت الدين مصيدة للدنيا». هذه القصة، وغيرها من القصص الموجودة في كتب التراث العربي، تؤيد موقف من يحتج على من يمتدح النظام القضائي الغربي، لأن القاضي إياس يقدم مثالاً عربياً، وإسلامياً، يمكن أن يحتذى به. ولكن كل ذلك يثير سؤالاً هاماً: أين نحن اليوم قضائياً؟؟ للجواب على ذلك سأورد ثلاثة مشاهد:- 1 – هناك من القضاة من يصرّ على مبدأ الصلح، ليس لأن الصلح أفضل، ولكن لأن القاضي لا يريد أن يتعب نفسه، أو لأنه لا يريد إغضاب أحد الطرفين!! 2 – أصبح يتكرر في الخصومات المالية أن يهدد المقترض، من أقرضه «بأن يقبل نصف القرض، وإلا الذهاب للقضاء!!» وهو بذلك يراهن على عامل التأخير الذي تشهده محاكمنا، لإجبار المقترض على قبول أقل من حقه. 3 – كان هناك رأي قضائي، بأن على القاضي ألا يحكم إن وجد نفسه في وضع نفسي، أو جسمي، قد يؤثر على نوعية الحكم، ولكن أحد ما توسع في تفسير ذلك، بحيث تحول ذلك، إلى السماح للقاضي بالبقاء في بيته، إن لم يشعر بأنه مرتاح نفسياً، أو جسمياً!! متناسين بذلك، أن هناك الكثير من الأعمال التي على القاضي مباشرتها، قبل إصدار الحكم، خصوصاً وأنه يستلم مالاً من بيت المال، وهو في بلد عدد سكانها (24) مليون، وعدد قضاتها أقل من (1500) قاضي. رحم الله القاضي إياس. [email protected]