إن وعينا لأغراض مجتمع الاستهلاك وأولياته، من شأنه أن يساعدنا على اتخاذ موقف نقدي منه، يقينا من الانجراف في تياره. علماً بأنه ينبغي أن نتذكر أن الإنتاج المهووس الذي يفترضه المجتمع الاستهلاكي قد بدد، في بحر جيل واحد، نسبة مرتفعة جداً من ثروات: الفحم الحجري والنفط، متراكمة في أحشاء الأرض منذ ملايين السنين، وأفسد التربة ودمر الغابات وخفض موارد البحر، ولوث البيئة التي تستمد منها الإنسانية عناصر حياتها. يقول كوستي بندلي في كتاب (الإيمان ومجتمع الاستهلاك): ينبغي أولاً التنبه إلى الخداع الأساسي الذي يشكل الدعامة المعنوية لمجتمع الاستهلاك، ألا وهو الإيحاء بأن الإنسان يكون) بقدر ما يمتلك، أي أنه يحقق ملء وجوده عن طريق اقتناء أكبر عدد ممكن من الخيرات، مع أن البون شاسع بين (الكينونة) و(الامتلاك). ثم إن المجتمع الاستهلاكي يتنكر لقيمة المشاركة بين الناس. ذلك أنه يشغلهم عن المشاركة فيما بينهم بالسعي اللاهث وراء أشياء يمتلكونها ويتنافسون في التسابق إليها. من هنا العزلة التي يتخبط فيها الناس وسط التجمعات السكنية الضخمة التي يعاني فيها المرء من (وحدة وسط الجمهور) حسب عنوان كتاب شهير لأحد كبار محللي المجتمع المعاصر للعالم الاجتماعي الأمريكي دافيد ريسمان. إن الفرد المتهالك على الكسب بغية زيادة قدرته على الاستهلاك، لا يجد الوقت اللازم كي يتصل فعلاً بالآخرين، كي يصغي إليهم، كي يشعر معهم، كي يتبادل وإياهم. هذا ما قد ينطبق على العلاقات ضمن العائلة نفسها: فالزوج وزوجته قد يصبحان مرهقين بالعمل من أجل تأمين الرفاهية للعائلة إلى حد أنه لا يبقى لهما مجال ليعيشا حياة عائلية حقة، ليؤمنا حداً أدنى من التفرغ أحدهما للآخر وكلاهما للأولاد. وإذا ما التقت العائلة عند المساء، فقد يكون الزوجان متعبين إلى حد أن الحوار - الذي كان تتميز به السهرات العائلية سابقاً - يصبح مستحيلاً بينهما ومع أولادهما، وإذا بالعائلة كلها (تجتمع) حول التلفزيون (تستهلك) معاً صوراً جاهزة تلهيها عن التعامل فيما بينها. ومما يعطل المشاركة أيضاً، أن مجتمع الاستهلاك يعتبر الكسب قيمته الأساسية ومقياس قيمة الإنسان. فالإنسان فيه يقوم حسب قدرته على الاستهلاك وبالتالي حسب دخله. إنه بالتالي مجتمع مبني على المنافسة، يلهث فيه كل امرئ وراء حاجاته الذاتية والتفوق في مستواه المعيشي، متجاهلاً الآخر ومتنكراً له. هكذا ينشىء مجتمع الاستهلاك غربة بين الإنسان وأخيه، تنتج شعوراً مضنياً بالفراغ والقلق. ولكن هذه الغربة عينها تثير العدوان كرد فعل على القلق. فالمشاركة وحدها قادرة على لجم النزوة العدوانية في الإنسان، أما مجتمع الاستهلاك، المبني على التنكر للمشاركة واستبدالها بالسباق الفردي اللاهث وراء الأشياء والتنافس الشرس على الكسب والرفاهية والممتلكات، فلا عجب إذا كان حافزاً مستمراً لعدوان يهدد دوماً بالانفجار في ممارسات عنيفة، فردية كانت أو جماعية، ما أكثرها في عصرنا! هكذا فإن مجتمع الاستهلاك يفرز العنف كنتيجة طبيعية لهيكلياته وممارساته. وقد كتب روجيه غارودي بهذا الصدد: (.. في مجتمعات يحرم فيها السواد الأعظم من الناس مما يدعوهم النسق الاجتماعي كله إلى التمتع به، يصبح العنف شريعة الأفراد والجماعات)، ويضيف: (كل تفكير حول العنف غير مجد ووهمي إذا لم يبرز جذره الحالي، ألا وهو مجتمع النمو والتنافس الوحشي بين الأفراد والجماعات والشعوب، هذا المجتمع الذي يحمل الإجرام في ذاته ويولده بالضرورة). ويخلص إلى القول: (... هذا المجتمع، المؤسس على المنافسة يسير بنمط يصبح الإنسان بموجبه ذئباً للإنسان). ختاماً نقول: إن مجتمع الاستهلاك يفرز العزلة والفراغ ويحكم على حياة الإنسان بالعبثية والتفاهة. فإذا بالمرء فقير وسط خيراته المتراكمة، جائع وسط تخمته، يستحوذ عليه السأم رغم تنوع الملاهي وتجددها المستمر، ويفتك به القلق رغم كل الضمانات التي يقدمها المجتمع له في البلاد المتقدمة. - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية